بقلم : عبد اللطيف المناوي
قبل أن أخوض فى الوجه المغاير لما اعتبره مجتمع النخبة الأمريكى إنجازات حدثت خلال المائة يوم الأولى فى عهد ترامب، أُذكر نفسى وإياكم بأن الرئيس الأمريكى، فرانكلين روزفلت، هو مَن أرسى تقليد المائة يوم، لكن روزفلت أطلق فى بداية ولايته مائة يوم حافلة بالتشريعات المفصلية، أما ترامب ففى ولايته الحالية جنح أكثر إلى الأوامر التنفيذية (أحادية الهوى)، متجاوزًا فكرة التوافق السياسى، ما جعل الكثير من قراراته عرضة للإبطال القضائى، على عكس القوانين التى يُقرها الكونجرس. وانطلاقًا من هذه الأسس، يمكن تقييم أداء ترامب الذى قد أسميه (متجاوزًا)، والذى هو فى الواقع ليس إنجازًا، بل سوف يتسبب فى أزمات مستقبلية.
نعم، لقد أظهر ترامب حزمًا عسكريًّا وتجاريًّا، لكن صورة أمريكا الدولية تراجعت فى عيون العديد من الحلفاء، الذين باتوا يشككون فى موثوقية الشراكة مع واشنطن، وهذا التراجع قد يُقوّض التنسيق الاستخباراتى والتحالفات الحيوية، أما خصوم أمريكا فاستفادوا من انشغالها: روسيا عززت نفوذها فى أوكرانيا، والصين مضت فى بناء منظومات اقتصادية موازية فى آسيا تقلّص من الهيمنة الأمريكية، وحتى اتفاقيات السلام التى تحدث عنها ترامب كثيرًا لم تُترجم- حتى الآن- إلى مسارات حقيقية؛ بل إن ترامب أوقف كثيرًا من مبادرات التسوية، وانسحب من دور الوسيط النزيه المحايد فى الشرق الأوسط، وانحاز انحيازًا كاملًا لإسرائيل.
المائة يوم الأولى فى ولاية ترامب شهدت كذلك ارتباكًا مؤسسيًّا كبيرًا، حيث إن ما أفرزته قرارا الرئيس الأمريكى خلال هذه المرحلة لا يوجد عليه إجماع مجتمعى، بل يراه قطاع واسع من الأمريكيين والعالم تحولًا نحو مزيد من الفوضى لا الاستقرار. صحيح أن ترامب نجح فى إغراق الساحة بسيل من القرارات والأفعال، فى تكتيك وُصف بـ«إغراق المنطقة بالفعاليات والجدل»، لكن هذا الإيقاع لا يُلغى مدى الوضع السيئ الذى صارت عليه صورة أمريكا.
ربما التوصيف الأدق هو أن ترامب قام بمغامرات جسيمة خلال هذه الفترة، ومآلاتها لا تزال فى رحم المجهول، فبعض ما بدا كإنجازات قد يتضح أنه مجرد حلول قصيرة الأجل، وقد تنقلب إلى أعباء بعيدة المدى.
الترويج لأن الفترة الماضية هى «مائة يوم من العظمة» مثلما يروج حلفاء ترامب وداعموه ربما هو ترويج إعلامى وشو اعتدنا عليه فى السابق. إن هذا التعبير ليس سوى شعار دعائى جذاب، لا يعكس بدقة جوهر المرحلة، فهى إما أن تكون شرارة تحول فعّال يرسم مستقبلًا جديدًا -كما يدّعى ترامب- أو أن تكون لحظة اضطراب عابرة تُلجمها المؤسسات الراسخة هناك، ويبتلعها الواقع. لقد كانت مائة يوم من الحراك المكثف والتغييرات الحادة، بعضها سيترك أثرًا بعيد المدى، لكنّها أيضًا كانت مائة يوم من التحولات الجذرية والنقاشات الساخنة، أكثر منها أيامًا راسخة من الإنجاز. بالتأكيد، الحكم النهائى عليها يظل مؤجلًا، إلى أن تتضح تداعياتها وتُختبر صلابتها أمام الزمن، وحتى يحين ذلك يبقى الوصف الأدق لها «مائة يوم من الجدل»، مع الاعتذار لماركيز وروايته العظيمة «مائة عام من العزلة».