بقلم : عبد اللطيف المناوي
فى خضم الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، ووسط وضع إنسانى كارثى يصفه مسؤولو الأمم المتحدة بأنه «غير صالح للحياة»، ووصفه ضمير العالم بأنه «مأساة مكتملة الأركان»، وافقَ المجلس الوزارى الأمنى المصغر فى إسرائيل على إنشاء هيئة حكومية مهمتها تسهيل ما سمَّتهُ «الهجرة الطوعية» للفلسطينيين من غزة إلى دول أخرى. هذه الخطوة، التى تُعرض على أنها مبادرة إنسانية اختيارية، تُثيرُ فى جوهرها جدلًا عميقًا حول أهدافها الحقيقية، ومدى توافقها مع القانون الدولى، وانعكاساتها الخطيرة على مستقبل القضية الفلسطينية. ليست فكرة تهجير الفلسطينيين من غزة بجديدة، بل تعود جذورها إلى أطروحات إسرائيلية يمينية، أبرزها ما جاء فى رؤية الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، التى تحدّثت عن ضرورة إعادة التفكير فى غزة، وإعادة إعمارها، شرط إيجاد حلول بديلة لتصفية الصراع، تضمنت ضمنيًا خيار تفريغ القطاع من سكانه وتحويله إلى منطقة ذات طابع اقتصادى وسياحى، وجعلها «ريفييرا الشرق» مثلما أسماها ترامب فى أحد مؤتمراته الصحفية. هذا كان مشروعًا قديمًا طُرح منذ سنوات، حتى إن الكثيرين وصفوه بالخيال السياسى صعب التحقيق، ولكن ما كان قبل سنوات مجرد خيال سياسى أو سيناريو متطرف، بات اليوم سياسة حكومية رسمية فى تل أبيب، وحليفتها واشنطن. فقد أعلن وزير الدفاع الإسرائيلى يسرائيل كاتس أن الهيئة الجديدة (المُشكّلة) ستعمل على تنظيم وتنفيذ النقل الطوعى لسكان غزة إلى دول أخرى وفق القانون الإسرائيلى والدولى، فى تنفيذ مباشر لما وصفه بـ«رؤية ترامب».
ورغم أن إسرائيل تصف الخطة بأنها طوعية، فإن السياق الميدانى يثير شُكوكًا جوهرية بشأن هذا الادعاء، ويشير إلى أنها تهجير قسرى، وليس طوعيًا. فالحرب على غزة خلفت أكثر من ٥٠ ألف شهيد، ومئات الألوف من المصابين، ومِمَّن فقدوا ذويهم، وتسببت فى انهيار البنية التحتية تمامًا، كما تسببت فى تدمير المستشفيات والمدارس، وحرمانِ السكان من الغذاء والدواء والماء. وفى ظل هذه الظروف، يرى كثير من المراقبين أن الحديث عن هجرة طوعية هو تضليل لغوى لعملية تهجير قسرى تم التخطيط لها بعناية. وقد وصفت منظمة هيومن رايتس ووتش هذه المبادرة بأنها ترقى إلى مستوى التطهير العرقى، مؤكدة أن القانون الدولى يجرّم أى عملية ترحيل جماعى أو تغيير ديمغرافى بالقوة فى الأراضى المحتلة.
وتطرح الخطة الإسرائيلية تهجير الفلسطينيين إلى دول مثل إندونيسيا، وقبرص، ورواندا، والصومال، رغم أن بعض هذه الدول نفت وجود اتفاقات رسمية مع إسرائيل. ولكن يبدو أن هناك مساعٍ من حكومة إسرائيل الحالية تجرى بعيدًا عن الأطر الدبلوماسية التقليدية، عبر وسطاء أو مقترحات تقدّم فى ظروف معقدة. وفى هذا الإطار، حذّرت اللجنة الوزارية العربية-الإسلامية المعنية بغزة من تداعيات هذه السياسة، مؤكدة أن ما يحدث ليس مغادرة طوعية بل تهجير قسرى تحت القصف والتجويع، وهو استمرار للسياسة العربية التى تقودها مصر برفض التهجير، ما يؤدى إلى تصفية القضية الفلسطينية بشكل كامل.