بقلم : عبد اللطيف المناوي
لحظة افتتاح المتحف المصرى الكبير تجاوزت فكرة كونها لحظة حدث ثقافى أو معمارى ضخم، إلى كونها حالة وطنية جامعة أعادت للمصريين شعورًا (موسميًا) بالفخر والاعتزاز. كانت مصر فى تلك الليلة تستعيد صورتها أمام العالم، بلد الحضارة الأكبر والإبداع الإنسانى الخالد، القادر على البناء رغم كل التحديات.
لم يكن الحضور الدولى الكبير هو ما منح الحدث قيمته، بل الإحساس الجماعى الذى عمّ الشارع المصرى بأننا جميعًا شركاء فى هذا الإنجاز، وأن ما أنجزته الدولة المصرية على مدار العقود الماضية ليس مشروعًا هندسيًا بقدر ما هو تجسيد حى لهوية تمتد عبر آلاف السنين.
لكن هذه الحالة الوجدانية ينبغى ألا تظل عابرة أو (موسمية) كما ذكرت سابقاً، ولا أيضًا أن تُختزل فى صور احتفالية لعدد زوار المتحف بعد الافتتاح. فالشعور بالفخر طاقة هائلة، والدول الذكية هى التى تعرف كيف تحولها إلى سلوك مستدام يغيّر فى وعى الناس ونمط حياتهم. من هنا تبدأ مسؤولية الدولة فى تحويل هذا الحدث إلى نقطة انطلاق جديدة.
الأهم - فى تقديرى- هو ضرورة استثمار الحالة المجتمعية التى ولدها الحدث، فذلك الشعور الجمعى بالاعتزاز والفخر يمكن أن يكون مدخلًا لتجديد الثقة بين الناس والدولة، وبين المواطن ومؤسسات بلده. فى لحظات كهذه، يصبح المجتمع أكثر استعدادًا للتعاون، وأكثر تقبلًا للإصلاح، وأكثر إيمانًا بأن الإنجاز ممكن. ومن هنا يمكن للحكومة أن تطلق مبادرات مجتمعية تستلهم روح المتحف - مبادرات تطوعية، وثقافية، وتنموية – تجعل من الفخر سلوكًا عامًا، لا إحساسًا مؤقتًا.
ربما ترتكز هذه المبادرات على التعليم والثقافة، إذ يجب التعامل مع المتحف الكبير باعتباره مدرسة مفتوحة للأجيال الجديدة، لتتحول المعرفة من نص جامد إلى تجربة حية، ستجعل الانتماء واقعاً يُمارس لا فكرة تُقال. أما على المستوى الاقتصادى، فإن هذه الحالة من الفخر يمكن أن تتحول إلى فرصة، لا سيما فى الجزء الخاص بالتنمية السياحية المستدامة، كأحد روافد الدخل القومى.
بين الفخر الشعبى والإنجاز الحكومى، يمكن للدولة كذلك أن تُطلق خطابًا جديدًا حول معنى الهوية والانتماء. خطاب يجعل من كل إنجاز فرصة للتربية الوطنية الهادئة، لا القائمة على التفاخر والتمايز. فالحضارة المصرية ليست حنينًا إلى ما مضى فقط، بل وعدٌ بما يمكن أن يكون. والمتاحف لا تحفظ الماضى فقط، بل تهيئ النفوس لتقبل المستقبل.
إذا استطاعت الدولة أن تحول هذا الفخر العام إلى مشروع وطنى متكامل يعيد صياغة العلاقة بين الناس وبلدهم، فإن افتتاح المتحف المصرى الكبير سيبقى لحظة فارقة فى تاريخ مصر الحديث، لحظة آمنت فيها الدولة بأنها لا تنتهج شعارات أو تعيش على أطلال الماضى، بل تبنى مجدًا جديداً يليق بمن صنعوا واحدة من الحضارات الأقدم فى التاريخ.
هى لحظة تختصر الماضى وتفتح باب المستقبل.