بقلم : عبد اللطيف المناوي
تعيش فنزويلا لحظة هى الأخطر منذ عقود، مع تصاعد التهديدات الأمريكية بشنّ ضربات برية وجوية تحت عنوان «محاربة المخدرات»، بينما تتكشف الأهداف الحقيقية وهى فرض إرادة واشنطن وإعادة رسم نفوذها فى أمريكا اللاتينية كما لو أننا فى القرن التاسع عشر.
السلوك الذى تمارسه إدارة ترامب بات يعكس نموذجًا جديدًا من الاستعمار، لا يكتفى بالتدخل السياسى أو الاقتصادى، بل يمنح نفسه سلطة تحديد من يجب أن يحكم ومن يجب أن يغادر وطنه.
فالهجوم المحتمل على فنزويلا، رغم كل التبريرات، يدخل فى خانة القوة الغاشمة غير المبررة. تصريحات ترامب الأخيرة، التى طالب فيها الرئيس نيكولاس مادورو بمغادرة البلاد «مع عائلته»، تشبه أوامر الحاكم العسكرى لا مداولات العلاقات الدولية. الأكثر خطورة أن ترامب أعلن إغلاق المجال الجوى فوق فنزويلا، وهو أمر لا يملك أى أساس قانونى، فى خطوة وُصفت فى كاراكاس بأنها «عدوان استعمارى مكتمل».
ورغم أن الخارجية الأمريكية تزعم أن مادورو «غير شرعى» وأن التدخل العسكرى سيعيد الديمقراطية، فإن ٧٠٪ من الأمريكيين يرفضون أى حرب فى فنزويلا. وحتى المعارضة الفنزويلية، رغم انقسامها، تدرك أن أى تدخل مسلح سيحوّل البلاد إلى ساحة حرب طويلة، وأن إسقاط مادورو بالقوة سيجلب فراغًا خطيرًا يشبه مشاهد العراق وبنما.
حجة «محاربة المخدرات» تبدو واهية أيضًا. فقد نفذت الولايات المتحدة أكثر من ٢٠ ضربة على قوارب قالت إنها تحمل مخدرات، دون تقديم دليل واحد على وجود مواد محظورة. والأسوأ أن تقارير تحدثت عن استهداف ناجين من ضربة أولى بضربة ثانية، ما فتح نقاشًا فى الكونجرس حول «قتل خارج القانون». ورغم الاعتراضات، يكرر ترامب أنه «يعرف أين يعيش الأشرار» وأن الهجمات قد تمتد إلى كولومبيا ودول أخرى، فى إيحاء خطير بأن الولايات المتحدة قد توسع عملياتها إلى نطاق غير مسبوق.
وفى الخلفية، تدرك فنزويلا والعالم أن ترامب يطارد هدفًا أكبر هو السيطرة على موارد الدولة النفطية الهائلة وإعادة تثبيت الهيمنة الأمريكية فى نصف الكرة الغربى. حتى المكالمة الهاتفية بين ترامب ومادورو، والتى رفض ترامب خلالها مقترحات الخروج الآمن أو العفو أو الانتقال السلمى، عكست رغبة واضحة فى الإملاء لا التفاوض.
دول المنطقة تدرك خطورة اللحظة. فبينما يسارع حلفاء واشنطن اليمينيون إلى قطع العلاقات مع كاراكاس، تتخذ دول أخرى مثل كولومبيا موقفًا أكثر حذرًا، داعية إلى الحوار وتجنب «البربرية»، كما قال الرئيس جوستافو بيترو.
ما يقوم به ترامب ليس مجرد حملة أمنية، بل إعادة تعريف خطيرة لحدود القوة الأمريكية. فحين تمنح دولة نفسها الحق فى إغلاق أجواء الآخرين، واستهداف حكومات مستقلة، وإطلاق عمليات عسكرية عابرة للحدود تحت عنوان «الأشرار»، يصبح العالم كله أمام سابقة تهدد النظام الدولى برمته.
ورغم كل ذلك، يبقى تاريخ أمريكا اللاتينية شاهدًا على حقيقة ثابتة: القوة الغاشمة قد تُسقط حكومة، لكنها لا تستطيع إخضاع شعب.