بقلم : عبد اللطيف المناوي
على غرار ما كتبه الأديب الكولومبى الراحل ماركيز فى روايته «مائة عام من العزلة»، أظن أن الفترة التى قضاها دونالد ترامب فى البيت الأبيض هى مائة يوم من الجدل. «ماركيز» ركز فى روايته على القرية التى اختارت أن تكون معزولة عن النظام والسلطة، وأن تبنى وتزرع وتحكم، متمسكة بأدوات وعلوم وأفكار القرية التى مزجت بين ما هو أسطورى وحقيقى، لكن المائة يوم الخاصة بترامب اختار فيها أيضًا أن يكون معزولًا عن العالم والتطور، يرفع شعار «استعادة مجد أمريكا»، لكنه فى ذات الوقت يتخذ قرارات ويقوم بأفعال تزيد من عُزلة أمريكا، وكأن العُزلة التى سوف يختارها ترامب هى التى سوف تعيد أمجاد الولايات المتحدة من جديد. كأن الجمارك والفواصل والطريقة الجافة التى يعامل بها البعض، والأساليب الناعمة التى يعامل بها البعض الآخر، هى الهدف من كل ذلك.
مرت مائة وبضعة أيام على تولى ترامب رئاسة أمريكا، وبدأ الناس يتحدثون عما فعله خلال الفترة السابقة. كشف حساب لرئيس يهتم جدًّا بفكرة كشوف الحساب، يهتم جدًّا بما فعله الآخرون فى السابق ليصفى حساباته معهم. معيار تقليدى يتوافق كثيرًا مع أفكاره كرجل أعمال ناجح، له مشروعات ومداخيل بالمليارات، وله منافسون فى كافة أنحاء العالم، لكن الغريب أن المنافسين هنا هم دول أخرى، وليسوا شركات أو رجال أعمال، يتعامل مع الدول بالكيفية التى يتعامل بها مع زملائه فى مجتمع رأس المال العالمى، يظنه دائمًا فى حالة حرب، إلى أن يثبت العكس.
مرور مائة يوم على تولى ترامب منصبه حدث استطاع أن ينال زخمًا فى مجتمع المراقبين الأمريكى لأنهم اعتبروه رصدًا لمدى وفاء ترامب بالوعود الانتخابية، وقد استندوا فى تقييمهم لهذه الفترة إلى أسس موضوعية متنوعة، من أبرزها: حجم القرارات والسياسات المعتمدة ومدى توافقها مع الدستور، الفارق بين التشريعات الفعلية والأوامر التنفيذية العابرة، ومدى تناغم الرئيس مع مؤسسات الحكم كالكونجرس والقضاء. وشملت المعايير أيضًا مدى انعكاس هذه السياسات على الاقتصاد والمجتمع، واتجاهات الرأى العام، إضافةً إلى موقع أمريكا فى الساحة الدولية وعلاقاتها بحلفائها وخصومها.
وقد روّج مؤيدو ترامب لرواية مفادها أن هذه الفترة تمثل «مائة يوم من العظمة»، استُعيدت فيها هيبة أمريكا وقوتها، فهل هذه هى الرواية الصامدة تحت مجهر التقييم العقلانى؟.
لا شك فى أن ترامب أنجز بعض الوعود سريعًا، مستندًا إلى أدوات التنفيذ المباشر. ويؤكد مؤيدوه أن خصوم أمريكا باتوا أكثر حذرًا، وأنه بسياسة الحزم والاستعراض، نجح فى ردع الصين عن مغامرات كبرى مثل غزو تايوان، وفى فرض احترام نسبى من جانب روسيا. ويذهب أنصاره إلى القول إن أصدقاء أمريكا التقليديين باتوا يأتون إلى طاولة التفاوض من موقع أضعف، ما يمنح واشنطن فرصًا لعقد صفقات أكثر إنصافًا لمصالحها، فى مشهد يصفونه باستعادة العظمة التفاوضية. غير أن التدقيق فى تفاصيل تلك الإنجازات يكشف وجهًا مغايرًا، الكثير منها سابق لأوانه، وبعضها يكتنفه ثمن استراتيجى باهظ، نتناوله بالتفصيل غدًا.