بقلم : عبد اللطيف المناوي
فى السياسة الدولية، هناك لحظات نادرة تسقط فيها الأقنعة عن الأفكار الكبرى، وتُجبر اللاعبين على مواجهة حقيقتهم بلا مساحيق. أوروبا، بوصفها فكرة قبل أن تكون كيانًا، كانت دائمًا مشروعًا مضادًا لهشاشة التاريخ، قارة تُدار بمنطق القانون لا السلاح، وتُذاب تناقضاتها داخل سوق مشتركة، ومؤسسات عابرة للحدود، وذاكرة جماعية تتعلم من كوارثها.. لكن نهاية عام 2025 تقول شيئًا مختلفًا. أوروبا تُدفع اليوم، مرة أخرى، إلى سؤال القوة، لا القوة بوصفها خطابًا أخلاقيًا أو قيمة معيارية، بل بوصفها قدرة عملية على الردع، والتمويل، وضبط الحدود، وتأمين الطاقة، وحماية طرق التجارة البحرية.
عودة دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية سرّعت هذا التحول، لا لأن أوروبا راغبة فى أن تصبح قارة «عسكرية»، بل لأن واشنطن فى عهد ترامب تعلن بوضوح أن زمن «أطلس» الذى يحمل النظام الدولى على كتفيه قد انتهى. فى استراتيجية الأمن القومى الأمريكية الصادرة فى ديسمبر الحالى، تُطرح الرسالة بلا مواربة: تقاسم الأعباء لم يعد أمنية أو دعوة أخلاقية بل معيارًا حاسمًا. الولايات المتحدة تتحدث صراحة عن «التزام لاهاى» الذى يطالب دول حلف الناتو بإنفاق 5٪ من ناتجها المحلى على الدفاع. هذا الرقم ليس تفصيلاً تقنيًا، بل أداة ضغط سياسى هائلة، تضرب مباشرة فى صميم الميزانيات الأوروبية، وتضع دولة الرفاه أمام اختبار قاسٍ، وتهز شرعية حكومات بُنيت تاريخيًا على معادلة الأمن الاجتماعى لا الأمن العسكرى.
هل أوروبا أقوى أم أضعف؟ الإجابة المباشرة، وربما الصادمة، أنها أقوى دفاعيًا، لكنها أضعف سياسيًا.
أوروبا اليوم ليست أوروبا 2018. من يكتفى بمتابعة خطب القادة وتصريحاتهم المترددة قد يظنها قارة حائرة أو مشلولة، لكن من يتتبع مسارات المؤسسات وقراراتها يدرك أنها تتحرك بثقل واضح، خصوصًا فى ملفى الدفاع والطاقة. التحول الدفاعى لم يعد نقاشًا نظريًا أو مشروعًا مؤجلًا، بل صار سياسة فعلية لدول الاتحاد. فى مارس الماضى، قدّمت المفوضية الأوروبية «الكتاب الأبيض للدفاع الأوروبى: الجاهزية 2030» ضمن ما بات يُعرف بـ«خطة إعادة تسليح أوروبا»، ووصفتها صراحة بأنها قفزة استثمارية كبرى فى القدرات. البرلمان الأوروبى بدوره لخّص الفكرة بوضوح أكبر: خطة لتعبئة ما يزيد على 800 مليار يورو عبر أدوات مالية مبتكرة، ومرونة فى قواعد الميزانية، وتسهيلات استثمارية غير مسبوقة. معنى ذلك أن الدفاع لم يعد ملف وزارات سيادية معزولة، بل أصبح ملف اقتصاد كلى، وصناعة ثقيلة، وقدرة تنافس فى عالم تحكمه موازين القوة.
لكن هذا التحول الصلب يضع التماسك السياسى الداخلى تحت ضغط شديد. تحويل الدفاع إلى أولوية قصوى يعنى، بالضرورة، إعادة توزيع الألم داخل المجتمعات الأوروبية: هل ستكون هناك ضرائب أعلى؟ هل سيتراجع الإنفاق الاجتماعى؟ هل تُفتح أبواب ديون مشتركة جديدة؟ وماذا ستدفع الطبقات الوسطى ثمنًا لهذا التحول، وماذا سيجنيه الشرق الأوروبى مقارنة بالجنوب؟