بقلم : عبد اللطيف المناوي
قطاع غزة، ذلك الشريط الصغير من الأرض الذى دمرته بالكامل آلة القتل الإسرائيلية، دخل اليوم مرحلة جديدة من المأساة، وهى مرحلة المجاعة الكاملة. لم يعد الجوع مجرد عرض من أعراض الحرب التى يشنها جيش نتنياهو، بل صار أداة ممنهجة تستخدمها تل أبيب فى صراعها مع الشعب الفلسطينى. إنها سياسة التجويع المقصودة، حيث يُمنع الغذاء والدواء والماء والكهرباء عن نحو مليونى إنسان، أغلبهم من الأطفال والنساء، ليموتوا ببطء تحت أنقاض مدينتهم الجريحة.
بعد أن استُنزفت القوة العسكرية الإسرائيلية فى قتل الأبرياء وهدم البنى التحتية وتدمير المستشفيات والمدارس، يبدو أن إسرائيل قررت اللجوء إلى أكثر الأسلحة خبثاً وألماً، سلاح التجويع. هذا السلاح لا يُحدث دوياً، لكنه يُفنى الأرواح بصمت. لا يثير الدخان، لكنه يخنق الصدور، ويحول رغيف الخبز وشربة الماء إلى حلم بعيد المنال. ويكفى أن نقرأ تقارير المنظمات الدولية لنفهم حجم الكارثة. فقد أعلنت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (FAO) وبرنامج الأغذية العالمى (WFP) أن غزة تواجه الآن مجاعة فعلية، وأن جميع سكانها يعانون من مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائى، فى ظل غياب أى استجابة إنسانية حقيقية.
وكلما حاولت المبادرات الإنسانية التقدم بهدنات مؤقتة لإغاثة المنكوبين وإدخال المساعدات، كانت إسرائيل تسرع إلى إفشالها، فهى لا تريد هدنة، ولا سماحًا بدخول المساعدات، لأنها تسعى إلى أمر أبعد من القتل، هى تسعى إلى تفريغ غزة من أهلها، إلى دفعهم قسرًا نحو التهجير. إنها سياسة ممنهجة لإعادة إنتاج النكبة ولكن بشكل أكثر قسوة.
أما العالم، فهو كما عهدناه، يكتفى بـ«القلق العميق»، والإدانات الشكلية، والبيانات الباردة التى لا تمنع دمعًا ولا توقف رصاصة أو قذيفة من طائرة أو من فوهة مدفع اعتاد الإسرائيليون على توجيهه صوب ضحاياه. يشاهد العالم الجريمة تُرتكب يوميًا على الهواء، ويصمت. صمتًا يرقى إلى مستوى التواطؤ. لا قرارات أممية تنفذ، ولا عقوبات تُفرض، ولا ضغوط تُمارس. وكأن هذا الشعب لا يستحق الحياة، وكأن موته لا يعنى أحدًا.
ما يحدث اليوم فى غزة ليس مجرد صراع، وتجاوز حتى فكرة العملية العسكرية الحربية. إنها مجزرة موثقة، مكتملة الأركان، بأسوأ ما يمكن أن يسجله تاريخ البشرية من وحشية. فحين يصبح الجوع وسيلة للقتل الجماعى، فإننا أمام فصل جديد من الجرائم التى لا تسقط بالتقادم، وستظل شاهدة على انحدار الضمير الإنسانى إلى أدنى درجاته.
غزة اليوم لا تطلب شيئًا سوى الحق فى الحياة. لا تسأل إلا عن إنسانيتها التى تُذبح أمام عيون الجميع. وفى الوقت الذى تُرفع فيه شعارات حقوق الإنسان، تُحاصر غزة، وتُذبح بلا شفقة. وفى هذا العالم يبدو أن أقسى ما يمكن أن تكونه، هو أن تكون فلسطينيًا يبحث عن الحياة.