يأتون ويذهبون. واحدٌ تلو آخر. لا يتركون أثراً وراءهم سوى ما تبقّى على الأرض من خطو دورانهم في دائرة فارغة مغلقة. بعضهم حاول وفشل، وعلى وجه الدقة، اثنان من مجموع عشرة مبعوثين (اللبناني غسان سلامة والأميركية ستيفاني ويليامز).
كلهم أرسل بهم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لترؤس البعثة الأممية في ليبيا، وبأمل فتح ثغرة في جدار صلد، في بلد متشظٍّ سياسياً وعسكرياً واجتماعياً، ومنهوب اقتصادياً من الداخل والخارج، وأضحى نموذجاً يستحق أن يُدرّس في الجامعات ومعاهد الدراسات السياسية كمثال لما يمكن أن يفعله المال السياسي الفاسد في تدمير المجتمعات، وما يمكن أن تفعله التدخلات الخارجية وتنافسها وتصارعها في مصير شعب صغير، يصحو وينام على بحيرة من نفط.
ما يميز المبعوثين الأمميين إلى ليبيا أنهم جميعاً كانوا مضطرين للبدء من المربع الأول. من منهم ينهي مدّته يغادر البلاد وسرعان ما يتلاشى اسمه. ومن يأتي بعده سرعان ما يجد نفسه ملزماً بالدخول إلى تلك الدائرة المغلقة، والهرولة حدّ الدوخان حتى تصل إليه رسالة الاستدعاء والعودة.
المبعوثة الحالية هانا تيتيه تدور في الدائرة المغلقة ذاتها، وعلى ما يبدو لم تصب بالإرهاق والإحباط بعد. يوم الخميس الماضي، في نيويورك، أعلمت أعضاء مجلس الأمن الدولي بخطة طريق جديدة، قالت إنها تفضي إلى تأسيس حكومة جديدة وتعديل القوانين الانتخابية بما يتيح الذهاب إلى الانتخابات. مهمة الحكومة الجديدة تتمحور حول مهمة واحدة، وهي توحيد المؤسسات الحكومية، وتعديل المفوضية الوطنية للانتخابات بهدف العمل على عقد الانتخابات.
هذه الأسطوانة مكررة، وليست جديدة. فالجميع في ليبيا وخارجها سمعها من قبل، ويعلمون أن حكومة طرابلس الحالية برئاسة عبد الحميد الدبيبة اختيرتْ منذ أربع أو خمس سنوات في جنيف، بإشراف المبعوثة الأممية ستيفاني ويليامز لأداء المهام ذاتها؛ إذ اشترطت المبعوثة ألا تتجاوز مدتها عاماً واحداً، وأن تلتزم أداءَ مهمة واحدة، هي عقد انتخابات نيابية ورئاسية، وتنسحب. مضت قرابة خمس سنوات على تلك الحادثة، وما زالت تلك الحكومة قائمةً إلى اليوم، ولم تُعقد انتخابات. وبدلاً من حكومة واحدة صار في ليبيا حكومتان.
في اليوم التالي لاجتماع المبعوثة الأممية الحالية بأعضاء مجلس الأمن الدولي في نيويورك، تناقلت المواقع الليبية على الإنترنت خبر إطلاق قذيفة «آر بي جي» على مقر البعثة الأممية في ضاحية جنزور، قرابة 15 كيلومتراً غرب طرابلس. القذيفة أخطأت مقر البعثة واستقرت في بيت مجاور تقطنه عائلة ليبية. وزارة الداخلية أصدرت في ما بعد بياناً قالت فيه إنّه تمّ العثور على السيارة التي استخدمها الجاني، ووجدت بداخلها قذيفتين أخريين وقاعدة الإطلاق. وما زالت الجهود تُبذل للعثور على الجاني.
القذيفة المذكورة تحذير من الجماعات المسلحة للسيدة تيتيه، وفي الوقت ذاته نذير بما يمكن أن يصيب البعثة الأممية والعاملين بها من شرور، إن أصرت على الاستمرار في الخطة المعلنة.
اللافت للاهتمام أنَّ حكومة طرابلس، والمجلس الرئاسي، ومجلس النواب، والمجلس الأعلى، وحكومة بنغازي، رحبوا جميعهم بخريطة طريق المبعوثة الأممية. السؤال: من سينفذ المبادرة إذا كانت البعثة الأممية بلا أسنان وأظافر؟
خلال الأسبوع الماضي عقدت المفوضية الوطنية الليبية للانتخابات انتخابات المجالس البلدية. أُجريت الانتخابات في أجواء مختلفة؛ إذ نجحت في بعض البلديات، ومُنعتْ أو حُظرت في بلديات أخرى. ويقال إن أحد مراكز الاقتراع تعرّض لهجوم من قبل أشخاص مسلحين قاموا بسحب بطاقات الاقتراع.
الأخبار المشجعة أنَّ البلديات التي أُجريت فيها الانتخابات جاءت نتائجها محبطة للجماعات الإسلاموية. هذه المرة الثالثة منذ فبراير (شباط) 2011 التي تتاح فيها فرصة أمام المواطنين الليبيين للتصويت في انتخابات نيابية وبلدية، ويرفضون فيها التصويت للإسلامويين. وفي تصريح أدلت به المبعوثة الأممية قالت إنَّ نجاح انتخابات المجالس البلدية أبان بما لا يدَع مجالاً لشكٍّ رغبة الليبيين في عقد الانتخابات.
ما قالته المبعوثة الأممية صحيحٌ مائة في المائة. المشكلة أنَّ من يرفضون الانتخابات هم من بيدهم السلطة والثروة والسلاح في مختلف أنحاء البلاد، ومستعدون لفعل أي شيء مقابل أن يحافظوا على مكاسبهم وامتيازاتهم. لكن ما لا تستطيع المبعوثة الأممية أن تفعله هو إقناع أولئك القادة بالكفّ عن إرسال مسلحين بقذائف «آر بي جي» لتدمير مقر البعثة الأممية أو إقناعهم بالتفاوض فيما بينهم لنزع السلاح وإنقاذ البلاد الذي طال أمده.