بقلم : جمعة بوكليب
في سنوات مضت، أثار مذيع تلفزيوني بريطاني اسمه مارتن بيل، كان يعمل في القناة الأولى بتلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، ضجة بتساؤله عن الأسباب التي تَحُول بين وسائل الإعلام ونشر أخبار مفرحة، بسعيها إلى نشر كل ما يُحزن النفوس من أخبار وتقارير. مارتن بيل تقاعد منذ سنوات، ولم يعد يظهر على شاشات التلفزيون. إلا أن تساؤله لا يزال ساري المفعول، ويحظى بالمشروعية. تُرى ماذا سيكون تعليقه لو أتيحت له فرصة قراءة تقرير معهد بحوث السلام في أوسلو بالنرويج، الذي يؤكد أن العام الماضي شهد 61 نزاعاً مسلحاً بين دول. واستناداً إلى التقرير نفسه، كان العام الماضي أكثر الأعوام التي شهدت حروباً منذ عام 1946. فمن أي الطرق سيجد الفرح منفذاً إلى وسائل الإعلام كي يبهج القلوب، في عالم تنتشر وتتسع فيه رقعة الحروب يوماً إثر آخر؟
حروب الدول الأفريقية الأهلية منها بالخصوص لا تتوقف، وفي آسيا كادت الهند وباكستان تدخلان في حرب نووية، لكنَّ الله سلّم. وماذا عن حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد سكان قطاع غزة؟ إلى يومنا هذا لا توجد مؤشرات تدل على قرب توقفها، بعد تعثر المفاوضات بين إسرائيل وحركة «حماس». وما زالت أخبار القتلى من المدنيين الفلسطينيين تتصدر يومياً عناوين نشرات الأخبار. وما زال العالم المسمّى «الحرّ» يدير ظهره لواحدة من كبرى الجرائم ضد الإنسانية. وما زالت دول الغرب الليبرالية الديمقراطية المدافعة عن حقوق الإنسان وحق تقرير المصير حريصةً كل الحرص على تزويد آلة الحرب الإسرائيلية بما تحتاج إليه من سلاح وذخائر. في الأيام القليلة الماضية، نقلت لنا وسائل الإعلام بثّاً مباشراً على الهواء لطائرات مقاتلة إسرائيلية تقصف دمشق في وضح النهار!
على الجبهة الأوكرانية - الروسية تتواصل منذ 3 سنوات أخبار القصف والدمار والقتل من دون توقف. أهم التطورات مؤخراً كان التحذير الذي وجهه الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى موسكو بوقف الحرب خلال 50 يوماً، وما لم تمتثل للتحذير فستواجه عقوبات أخرى، تضاف إلى قوائم طويلة من العقوبات الغربية التي صدرت ضدها. كثير من المحللين الغربيين، خصوصاً في واشنطن، قلَّلوا من شأن التحذير الأميركي. وفي آرائهم أن مهلة 50 يوماً بمثابة منح موسكو ما يكفي من الوقت لاستكمال تحقيق أهدافها العسكرية. أضف إلى ذلك التغيّر المفاجئ في موقف الرئيس ترمب من رفض إرسال سلاح إلى أوكرانيا. إذ وافق مؤخراً، تحت ضغوط من حلفائه الأوروبيين، على إرسال صواريخ «باتريوت» الدفاعية إلى حكومة كييف، على أن تتولى دول أوروبا دفع الفواتير. فمن أين ستجد أوروبا الأموال؟
اللافت للاهتمام أن أوروبا وجدت نفسها متورطة في حرب من نوع آخر مع واشنطن، وهي حرب الرسوم الجمركية. منذ الأول من شهر أغسطس (آب) المقبل، أي خلال أسبوعين على الأكثر من الآن، ستجبَر الدول الأوروبية على دفع 30 في المائة ضريبة للخزينة الأميركية مقابل البضائع والسلع التي تُصدّرها إلى أميركا. مع الأخذ في الاعتبار الأوضاع الاقتصادية والمالية السيئة في كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها. التقارير الإعلامية تتحدث عن فرنسا بأنها أضحت رجل أوروبا المريض، نتيجة العجز في ميزانيتها. نسبة العجز وصلت إلى 5.8 في المائة من حاصل الناتج المحلي، وبلغت البطالة نسبة 7.8 في المائة.
بقاء رئيس الحكومة الفرنسية في منصبه معلَّق بخيط واهن، ويتوقف على موقف أحزاب المعارضة في البرلمان، التي من المحتمل أن ترفض الموافقة على الميزانية التي سيقدمها بما تحويه من تخفيض في الإنفاق في كثير من القطاعات الخدمية.
اللجوء إلى فضّ النزاعات بالحرب لم يكن في سنوات مضت أول الخيارات المطروحة أمام دول العالم، إلا أنه صار الخيار الأول الآن. معاهد دراسات السلام التي تنتشر في كثير من عواصم العالم، خصوصاً الغربية منها، لم تعد دراساتها وتقاريرها وإحصاءاتها تجد مكاناً لها في مكاتب ومقرّات وأروقة صانعي القرارات، وتحذيراتها أضحت مثل صرخة في وادٍ.
وسط هذا الخضم من أخبار الحروب، انفرد خبر واحد ببشارة محتملة لحلول سلام نأمل أن يتحقق ويتوطد بين تركيا وحزب العمال الكردستاني بعد 40 سنة من النزاع المسلح، عقب إعلان الأخير مؤخراً، وبشكل أحادي، تخلّيه عن السلاح، وتبنّيه العمل السياسي.