استعداداً لقرب حلول شهر الصيام، بادرت إدارة مصرف ليبيا المركزي بفتح باب الاعتمادات المصرفية أمام التجار، لاستيراد السلع والبضائع الضرورية للشهر الفضيل، ورصدت لذلك مبلغاً يزيد على 3 مليارات دولار أميركي، تباع بالسعر الرسمي. أي كل دولار أميركي يقابله تقريباً 5.43 دنانير ليبية.
في الأسبوع الماضي، في ميناء مصراتة البحري، وخلال جولة تفتيش على السلع القادمة إلى الميناء، توقف رجال الجمارك أمام عشر حاويات كبيرة، وفتحوا إحداها. المستندات الرسمية تؤكد أن السلعة بالحاويات حُبوب بُن. ولكن رجال الجمارك اكتشفوا أن الأكياس المستوردة داخل الحاويات العشر تحتوي على مِلح. قيمة شحنة المِلح في الحاويات تقترب من 3 ملايين دولار أميركي. سعر الدولار في السوق الموازية حالياً يقترب من 8 دنانير ليبية.
هذه الفضيحة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة في ليبيا. والسبب أن تجارة الاعتمادات المصرفية تجارة كبيرة ومربحة وبلا رقابة، تقوم على تسلم مبالغ مالية بالدولارات من المصرف المركزي بثمن أرخص مما هو عليه في السوق الموازية. وبعدها يقوم أصحاب الاعتمادات بتدوير المبالغ وإرجاعها إلى السوق الليبية وبيعها بفارق سعر كبير.
في سنوات مضت، كانت الجماعات المسلحة تؤسس شركات وهمية لهذا الغرض. وتستغل أرباح بيع الدولار بالداخل في شراء الأسلحة والذخائر، وفي الاستثمار بالأسواق العقارية في الدول المجاورة، وفي دول أوروبا.
اللافت للاهتمام أن الليبيين لم يسمعوا يوماً أن السلطات الأمنية قبضت على التجار المستوردين للسلع المغشوشة رغم ثبوت الأدلة، أو جرَّمت الشركات المستوردة، رغم أنهم معروفون وفقاً للوثائق المقدمة من طرفهم للمصرف. وهذا بدوره أفضى إلى ازدياد وانتشار شركات استيراد وهمية، كل همها هو الحصول على ملايين الدولارات من المصرف المركزي، ثم تدويرها وإعادتها إلى السوق الليبية، وبيعها للمواطنين بفارق سعر كبير، مع تفضيل واضح لبعض الشركات العائلية.
رجال الجمارك في مدينة مصراتة، ما كانوا ليفتشوا الحاويات المملوءة بالملح بدل البُن المسجل بالأوراق، لو أن الشركة المستوردة لم تخالف الأصول المتبعة وقامت بالواجب، أي بدهن التروس المهمة في إدارة الميناء بما يلزم من زيوت وتشحيم. هذا احتمال أول. أما الاحتمال الثاني، فإن إدارة الجمارك في الميناء المذكور وصلت إليها معلومات عن الشحنة قبل وصولها، وكانت في انتظارها.
هذا يقود إلى استنتاج لا مناص منه. وهو أن المسؤولين بالحكومة وبالمصرف المركزي وبقية المصارف على علم ودراية بما يحدث من تلاعب في الاعتمادات المصرفية الخاصة بالتوريد، وعلى دراية بالمتلاعبين، ورغم ذلك لا يستطيعون إيقاف الاستنزاف المتعمَّد للعملة الأجنبية، إما بسبب الخوف وإما لطمعهم في حصة من الغنائم.
الاحتمال الثاني أقربهما إلى الواقع، حسبما تبيَّن مؤخراً من بيانات مكتب النائب العام، من اعتقال وسجن موظفين في المصارف الليبية ممن سهَّلوا التلاعب. ولكن الحيتان الكبيرة ظلوا في مأمن من العقاب.
وأن يستورد تاجر -أو شركة استيراد مواد غذائية- بقيمة ثلاثة ملايين دولار أميركي تحت بند تزويد السوق الليبية بالبُن لصنع القهوة، ويقوم باستيراد عشر حاويات كبيرة الحجم مملوءة بالملح بدلاً من ذلك، في بلاد بشاطئ بحر طوله نحو ألفَي كيلومتر، فتلك كما يقول المصريون: «فضيحة بجلاجل»، تؤكد على مستوى الانحطاط الأخلاقي الذي وصل إليه بعض التجار الليبيين في سبيل الإثراء غير المشروع. هذا من جهة.
من جهة أخرى، يرى البعض أن إحضار شحنة ملح بدلاً من شحنة بن أهون قليلاً من إحضار شحنات سلع غذائية منتهية الصلاحية، أو فاسدة. ويشيرون في ذلك إلى النسبة العالية المسجلة رسمياً من الإصابة بأمراض السرطان المختلفة بين الليبيين.
في الفترات الأخيرة، قامت مجموعة من الباحثين المتخصصين في الأغذية بجولات تفتيشية على الأفران في طرابلس، وتبين أن أغلبها يستخدم مواد تحسينية تسبب مرض السرطان. وتأكد ذلك من خلال التحاليل المختبرية العلمية. والأسوأ من ذلك استيراد شركات الأدوية أدوية منتهية الصلاحية. أي إن الأمن الغذائي والدوائي لليبيين منتهكان.
وبينما يستمر نزيف المليارات تحت لافتة «توفير السلع الضرورية»، يبقى السؤال قائماً: متى تتوقف ليبيا عن استيراد الملح بأغلى الأثمان، وتكتفي بالتخلص من «ملح الفساد» الذي تغرق فيه البلاد؟