حتّى الآن وإلى أجلٍ غير مسمّى، يتحدّث نتنياهو عن قرب انتصاره الكامل في غزّة. ومن خلال ترويجه للانتصار الذي لم يحدث، يحاول ستر عوراته الكثيرة التي كانت سبباً في طول أمد الحرب، وسبباً قويّاً في حال توقّفها لأن يغادر إمّا إلى السجن أو إلى البيت. وإذا ما نجا من العقوبات لدوافع سياسيّةٍ وربّما أميركيّة، وحصل على عفوٍ من رئيس الدولة، ففي كلّ الأحوال سيكون من الماضي.
في أحاديثه الكثيرة التي يخاطب بها جمهور ناخبيه، استخدم نتنياهو عباراتٍ كانت غائبةً عن أدبيّات الحرب، مثل قوله إنّه في حالة تحقّق نصره المطلق فسوف تُفتح الأبواب أمام تطبيعٍ شاملٍ بين إسرائيل والدول العربيّة والإسلاميّة “السنّية”. وقال أيضاً إنّ الهدف الأكبر في هذه الحالة هي السعوديّة.
إنّ للمملكة باباً واسعاً للدخول إليها، وهو مفتوحٌ على مصراعيه لمن يلبّي مطالبها ومغلقٌ بإحكام لمن يسعى إلى غير ذلك
كفاية مشهودة
أغفل نتنياهو تماماً ما يعرف، مصوِّراً التطبيع وفق مسار أبراهام كما لو أنّه عمليّةٌ تلقائيّة ستُستأنف عندما ينتصر في الحرب على غزّة فيجلس في مكتبه منتظراً طلبات التطبيع وما عليه إلّا أن يضع شروطه للقبول بها أو الاعتذار عن عدم قبولها!
نتنياهو لا تنقصه معرفة وفهم ما يدور حوله، غير أنّه دائماً يُخفي ما يعرف، وأهمّ ما يُخفي أنّ كلمة سرّ التطبيع، وخصوصاً مع السعوديّة، لا يعرفها وحده، بل قبله وبعده رائد مسار أبراهام الرئيس دونالد ترامب.
كلمة سرّ التطبيع التي يعرفها ولا يبوح بها، هي موافقته على قيام الدولة الفلسطينية التي أوقف الالتزام السعوديّ بها قطار أبراهام عند آخر محطّةٍ وصل إليها، ولم يعد بوسعه الانطلاق إلى المحطّة الأخيرة التي هي خلاصة المحطّات جميعاً في هذا المسار.. السعوديّة.
مارست المملكة في هذا الشأن سياسةً تجاوزت وضع شروط للتطبيع، بل عملت بكفايةٍ مشهودةٍ على تحويل مطلب قيام الدولة الفلسطينية إلى التزامٍ دوليّ تجسّد في المؤتمر التاريخيّ الذي عُقد في الأمم المتّحدة، والذي أعلن فيه ما يربو على 90% من دول العالم اعترافها بالدولة الفلسطينية وحتميّة إقامتها كضمانٍ أكيد للأمن والاستقرار في الشرق الأوسط.
سوف تتوقّف حرب غزّة قريباً أو بعيداً، ونتنياهو يعرف جيّداً أنّ توقّفها بأيّ تسويةٍ أو صيغةٍ لم يكن بفعل انتصاره المطلق وإنّما بفعل الضغط الفعّال الذي مارسه قادة الدول العربيّة والإسلاميّة على ترامب
عرف نتنياهو الحقيقة ليس فقط من خلال الاشتراط السعوديّ الحاسم في مجال التطبيع، وهو قيام الدولة، بل من خلال المقاعد الفارغة التي خاطبها من على منبر الجمعيّة العامّة، وذلك بعد أيّامٍ قليلةٍ من امتلائها ترحيباً والتزاماً واعترافاً بالدولة الفلسطينيّة.
لقد وصلت رسالة العالم لنتنياهو، عبر ذلك المشهد التاريخيّ، غير أنّه لاذ بغربالٍ مليءٍ بالثقوب لحجب شمس الحقيقة، مفضّلاً التحالف مع عتاة العنصريّين من أمثال سموتريتش وبن غفير، على إرادة العالم، ليمشي معهم عكس تيّار التاريخ الذي يتّجه بقوّة نحو قيام الدولة الفلسطينيّة.
الخطّ السّعوديّ المستقيم
سوف تتوقّف حرب غزّة قريباً أو بعيداً، ونتنياهو يعرف جيّداً أنّ توقّفها بأيّ تسويةٍ أو صيغةٍ لم يكن بفعل انتصاره المطلق، الذي دأب على ادّعائه، وإنّما بفعل الضغط الفعّال الذي مارسه قادة الدول العربيّة والإسلاميّة على ترامب، الذي يفترض أن يكون عرف مغزى المقاعد الفارغة التي استُقبل بها حليفه نتنياهو، ويُفترض أيضاً أن يكون عرف كم أوصله تحالفه غير المقدّس مع نتنياهو إلى عزلةٍ دوليّةٍ شاملة، إذ لم يبقَ معه إلّا دولٌ تُعدّ على أصابع اليدين لا أكثر.
يعرف نتنياهو الطريق الصحيح إلى التطبيع الشامل مع العرب والمسلمين، ويُفترض أن يعرفه أيضاً الرئيس دونالد ترامب، وقد يكون تجاهل نتنياهو لأقرب مسافةٍ بين نقطتين، وهو الخطّ السعوديّ المستقيم، وعنوانه ومضمونه الدولة الفلسطينيّة، مفيداً له في أمر الاحتفاظ بناخبيه، إلّا أنّه في أوّل الأمر وآخره، وهذا ما يعرفه جيّداً، لن يحرّك قطار التطبيع من مكانه المتجمّد، ما دام هو ومن معه يواصلون إنكار ما يعرفون.
إنّ للمملكة باباً واسعاً للدخول إليها، وهو مفتوحٌ على مصراعيه لمن يلبّي مطالبها ومغلقٌ بإحكام لمن يسعى إلى غير ذلك.