بقلم : فهد سليمان الشقيران
في الثلث الثاني من القرن العشرين أطلق الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر مقولةً «العلم لا يفكّر»، وهي ذات طابع فلسفي إشكالي. وما كان تفسيره لها موحّداً، بل ابتكر لها أكثر من شرح، وفي كل مناسبةٍ يتطوّر تبريره، لكأنه طرح المقولة ليختبرها أكثر مما يريد الدفاع عنها، لكن الآصرة العامة للفكرة مفادها أن العلم لا يفكّر على النحو المفهومي الذي تنحاه الفلسفة عبر تاريخها الطويل.
ما يهمني هنا هو علاقة الفلسفة بالتطوّر العلمي. على امتداد التاريخ المضطرب بين المجالين العلمي والفلسفي لم يتوقف التأثير المتبادل بين الاثنين. لم يكن للفلسفة أن تتطوّر منذ القرن العشرين وحتى اليوم لولا الفتوحات المختلفة في حقول العلوم البحتة. وستبقى الفلسفة في مجالها والعلم في مختبراته، لكن يتلاقى الجدولان عند مصبّ النهر.
وفي الوقت الحالي، تطرح أسئلة حيويّة عن علاقة الفلسفة بالذكاء الاصطناعي، وأحسبه امتداداً طبيعياً لمقولات النفي والالتقاء بين العلم والفلسفة. لكن «هل يمكن للذكاء الاصطناعي بلوغ مرحلة التفوق الفكري على أعظم الفلاسفة؟». هذا السؤال عنوان مقالٍ طُرح لأول مرة في مجلة «وايرد الشرق الأوسط» بتاريخ 3 نوفمبر 2021، وترجم في قسم الذكاء الاصطناعي بموقع جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي.
وبحسب المجلة، فالمقال «يتناول الجدل الدائر حول ما إذا كانت الآلات ستتمتع بالقدرة على الإجابة عن أهم الأسئلة الوجودية في الحياة، أو حتى مجرّد إدراك مقدار الألم الذي تسببه إصابة أصابع القدم».
في المقال يتبنى إريك زينغ، وجهة نظر أكثر تشككاً، حيث يصف العمل الجاري إنجازه باستخدام النماذج اللغوية الحالية بأنه يشبه «إرسال بطة بعد غمر قدميها بالحبر للتجول فوق قطعة من الورق وتسمية الناتج بعمل فني تجريدي». وأضاف زينغ: «يمكن للمرء أن يجمع بين السمات والأفكار المختلفة لجميع هؤلاء المشاهير وإنتاج أفكار تبدو عميقة للوهلة الأولى. لكن فيما يتعلق بإدراك تلك الآلة للمواضيع أو الأفكار التي تتحدث عنها أو ما إذا كانت فلسفتها ذات مغزىً أم لا، لا أعتقد أن هذا الأمر قابل للتحقيق».
لكن ماذا عن اللغة؟!
يجيب كاتب المقال: «تعتبر اللغة مجرد واحد من المواضيع التي تمثل مسرحاً للنقاشات المستمرة حول مسألة متى - وهل - سيكون الذكاء الاصطناعي قادراً على تقديم أفكار ذات مغزىً بشأن مواضيع مثل الموت ووجود الكون وماذا يعني أن تكون إنساناً. ومن بين الأشخاص الذين يؤمنون بقدرة الذكاء الاصطناعي على تحقيق ذلك، يبرز الفيلسوف جون سيرل الذي يعتقد أن المزيج المؤلف من الحاسوب الصحيح والمدخلات المناسبة (سوف يمتلك عقلاً تماماً كما هو الحال مع البشر)».
والخلاصة، أننا أمام جولة علميّة أحرجت المجالات الفلسفية واللغوية، بل ربما عطّل التقدّم التقني عملَ العديد من المقولات الفلسفية الكلاسيكية التي ورثها الدارسون منذ بدء الكشوفات العلمية التي فهمتْها الفلسفة، ولكن لم تخضع لها.. وفي آخر المطاف، فإن هذا التنافس بين العلوم بكافةِ مجالاتها من صالح الإنسان.