لم يكن قرار «حزب الله» خوض الحرب مع حركة «حماس» نصرةً لها؛ وإنما قدَّمت الحركة للحزب مناخ المغامرة الذي يبحث عنه منذ عقدين، وعنوانها «إما أن أربح كل شيء، وإما أن أخسر كل شيء».
دخل الحزب عملية «حرب الإسناد» بعقيدة قتالية قديمة، وبأدواتٍ هشَّة، وبخبرة قليلة أمام التطوُّر التكنولوجي لإسرائيل. قصارى ما نصح به الحزب أتباعه عدم استعمال الهاتف النقَّال.
«ضعوه بالخزانة»، هذه هي الاستراتيجية التي أراد نصر الله أن يتفوَّق بها على إسرائيل. نصيحة تقليدية هشَّة مكَّنت الإسرائيليين من ترتيب أكبر عملية استخباراتية في تاريخ الإقليم؛ بل من أخطر العمليات التي سيكتبها التاريخ.
عملية قال عنها العميل السابق في المديرية العامة للأمن الفرنسي، أوليفر فاس، ضمن وثائقي بثَّته قناة «العربية» بعنوان: «قادة (حزب الله) وقصة الاغتيالات»: «لقد أُنجزت العملية كاملة باستخدام قفَّازات؛ دون آثار، ودون حمض نووي، ودون شيء إطلاقاً! إنها عمليَّة شبه علميَّة لفتح صندوقٍ ثم إغلاقه، وكأن شيئا لم يكن. إنها ضربة عبقرية شريرة، ولكنها فاعلة للغاية. تشوَّشَ (حزب الله) وتزعزعَ تماماً بضربة واحدة».
لم يكن وضع الهواتف بالخزائن كافياً لهزيمة إسرائيل. وهذا جزء من الجهل الذي سيطر على محور المقاومة الذي لم يستطع -رغم كل مراكزه البحثية والاستخبارية- أن يتجاوزه.
لقد شكَّلت مجزرة «البيجر» ضربة كبيرة للمحور من أوله إلى آخره. ولهذا الفشل عدة أسباب:
الأول: احتقار الأعداء؛ وهذه الفكرة مؤصَّلة في المقولات الشعرية والتراثية. من الممكن استعمالها على سبيل الزهو والفخر، ولكن حين تختار الأعداء أو يختارونك فيجب أن تكون جاهزاً لهم، وتعدَّ العُدَّة لهزيمتهم، وهذا ما لم تنجح فيه، لا حركة «حماس»، ولا «حزب الله»، ولا حتى الحوثي الذي يطلق كل يومٍ كومة من الحديد ضد إسرائيل، من دون درسٍ لقوَّتها أو فهم لطبيعة ردة فعلها. إن احتقار العدو والاستهانة به أكبر سبب لأي هزيمة.
الثاني: الاستناد إلى المعارك القديمة؛ فقد توقَّع «حزب الله» أن معركته الأخيرة مجرَّد استكمال لما جرَّبه في يوليو (تموز) 2006، وكذلك فإن خوضه حروب العصابات في سوريا أنهكه تقنياً وعسكرياً واستراتيجياً. ما عادت إسرائيل تقوم بالضربات الاعتيادية التقليدية، وإنما ذهبت لأبعد من ذلك؛ إنها الحرب العلميَّة والتكنولوجية.
إن الخبرة الضعيفة بمستوى التطوُّر التقني العسكري العالمي، جعلت الحزب يظنُّ أن إسناده لحركة «حماس» يعني توسيع مساحات سيطرته، وبخاصة أن الوهج الذي أخذه بعد الاستقرار السوري المؤقت آنذاك قبل سقوط النظام جعل جرأته أكبر، ولذلك فإن هذا الفشل الذريع يعبِّر عن تقهقر استراتيجي تام سببه الفقر العلمي بنسبة التفوُّق الإسرائيلي خلال العقدين الماضيين.
الثالث: توقُّع الحزب أنه بخوض «حرب الإسناد» سيحقق المكاسب في الداخل اللبناني، وبالتالي تغيير التوازنات، والتحكُّم المطلق في مستقبل البلد ونظامه ودستوره، وبخاصة مع إدراكه أن النمط السياسي الليبرالي آخذٌ في التشكُّل مع صعود خطابٍ مدني مختلف، ولذلك فإن مراهنته على حرب الإسناد، كان لها هدف سياسي داخلي لبناني. لقد راهن على مشاغلة حركة «حماس» لإسرائيل، وأن حينها لن يكون الرد الإسرائيلي عنيفاً. وهذا فيه سوء تقدير للحالة الإسرائيلية الجديدة؛ بل يعبِّر عن ضعف سياسي وانهيار أمني واستخباري داخل الحزب ومنظومته ومحوره.
الخلاصة: إن مقولة «اعرف عدوَّك» أفضل سبيلٍ لفهم مسار المعارك. الحرب التي خاضها «حزب الله» كانت هي المقتل، وأودت به إلى هذا المصير.
إن تجريب العدوِّ المتمكِّن لن يجرَّ إلا الهزائم والويلات، والضحايا هم الناس والبشر. ثمة استهتار وتفريط في الجغرافيا. كل ذلك بسبب قراراتٍ اعتباطية آيديولوجية. لم يكسب «حزب الله» بحرب الإسناد أي شيء؛ بل على العكس أصيب بحالة انكشاف؛ بل وانهيار. وآية ذلك أن الحزب بعد وعود تدمير هذه الدولة أو تلك، لم يعد لديه من طموحٍ سوى تعليق صورة في صخرة، والاستماع إلى خطابٍ أو أنشودة، كل ذلك سببه تنفيذ استراتيجية هي أكبر من طاقته وقدرته واحتماله.