الحدث السياسي وتحديات قيم المواطنة

الحدث السياسي... وتحديات قيم المواطنة

الحدث السياسي... وتحديات قيم المواطنة

 العرب اليوم -

الحدث السياسي وتحديات قيم المواطنة

بقلم : فهد سليمان الشقيران

 

التربية على المواطنة تحدٍ كبير وجاد يواجهه النمط المؤسسسي للدولة الحديثة؛ وذلك لأسبابٍ عديدةٍ منها تنازع مؤسسات الدولة من قبل الأحزاب المسيّسة الثورية، أو محاولة تقويض العلاقة بين الإنسان وبيئته ومجتمعه ودولته بسبب الترويج للنزعات الانفصالية. والأحداث التي تعصف بين فترةٍ وأخرى تؤثر على بعض قيم المواطنة وتطرح تحديات تتعلق بالاستقرار، وهذا موضوع انتباه أمني وسياسي كبير. كما أن سكنى التاريخ، واللجوء غير المبرر لقضايا خارج سياق التماس مع الدولة وأسسها، يحتمان علينا التركيز وعدم الانسياق وراء خطابات وشعارات إعلامية عمومية تجعل أولويات الآخرين موازية لأولوية الوطن الأم، لذلك كان لزاماً على المتخصصين خوض غمار هذه الإشكالية ومواجهتها على المستويات كافة.

وقد سعدتُ حين اطلعتُ على كتابٍ مهم بعنوان: «تحديات قيم المواطنة»، صدر عن «مركز المسبار». هدف الكتاب دِراسة الدَّعائم المعزِّزة لفِكرَة الدَّولة؛ والمحصِّنة لِلمجتمع مِن أحابِيل الحركات الإسلاموية، والتركيز على التَّحدِّيات والفرص التِي تُواجههَا مَنظُومة القيم المتَّصلة بها؛ المتمثِّلة في التَّسامح والتَّضامن والاحترام والاعتراف والالتزام بِالقانون والوطنيَّة، فيتناول أنماطاً مُتَعددَة مِن المواطنة وقيمها التي طورتهَا مُلاحظات الفلاسفة والمنظِّرين السِّياسيِّين، اِستجابةً منهم لِمَا واجهَته بُلدانهم مِن نِزاعَات أهليَّة وولاءات عابرة، وتحدِّيات للعيش المشترك، وسأعرض هنا خلاصات للكتاب لتعزيز الأسئلة والنقاش حول هذا الموضوع الحيوي.

تَنَاولَت فَاتِحة دِراسَات الكتَاب، ثَلاثَة طُروحَات لِفلاسفة ألمَان؛ تَبايَن حُضُور قِيم المواطنة فِي نظريَّاتهم. فَنَاقشَت تنظيرات أكسِيل هُونيث (Axel Honneth)، وجدليات يورغن هابرماس (Jürgen Habermas)، وطروحات هانس يُوناس (Hans Jonas). إِذ اكتسَب مَفهُوم الاعتراف عِند هُونيث أهَميَّةً قُصوى فِي تَشكِيل الهوِية الذَّاتيَّة، فبِغيابه يَفقِد الفرد صِفَته الشَّخصيَّة ووضعيَّته الفرديَّة. بينمَا اِحتلَّت قِيم الحوار والتَّواصل واحترام القانون والمجال العام مَكانَة كَبِيرَة فِي كِتابَات هابرماس، الذِي نظر للِمواطنة العالميَّة، فِيمَا يُشدِّد على أخلاقيَّات النِّقَاش أو الحوار القائمة على: التَّواصل والتَّفاهم والحرِّيَّة والعقلانيَّة والتَّحرُّر. بينمَا أولَى يُوناس أهَميَّة لِلفلسفة الإيكولوجيَّة فِي تنظيراته، وأراد التَّأسيس لِأفكَار جَدِيدَة حَول حَاضِر ومستقبل البيئة والإنسان. لَم تُشِر الدِّراسة إِلى المسارات السِّياسيَّة والثَّقافيَّة التي نَشأت فِيهَا النظريّات، ولا أزمَات ألمانيَا فِي القرن الماضي، التِي أنتَجت المدارس الثَّلَاث، التي تتطوّر إلى الآن، ويمكِن مُلَاحظَة صِلة كُلِّ فيلسوف بِأزمة مِن الأزمات، نتاج الحروب، أو سياسة الذَّاكرة، والمسؤوليَّة المستقبليَّة. ولئِن اِختلَفت هَذِه المدارس ونزعاتهَا، إِلَّا أنهَا تَتفِق فِي تَعزِيز قِيم العيش المشترك والتَّسامح.

إِذن، فَقيَم المواطنة تَبرُز عن تحدٍّ بِعينه، وتترافق مع ظَرف الوعي السِّياسيِّ والقانونيِّ بِأهمِّيَّة السِّلم المجتمعيِّ، لِذَا تَنَاولَت المادَّة الثَّانية سِياقَات وِلادة الوعي بِالمواطنة فِي ثَلاثَة نَماذِج: الأول الأنموذج الرَّاوندي، الذِي بَانَت فِيه صَدمَة الإبادة والحرب، فتَطرّقَت إِلى المعاناة والدُّروس المستفادة مِنهَا؛ فِي سبيل إِعادة البنَاء الدَّاخليِّ وتحقِيق المصالحة، وكيفِية بُلُوغ العدالة والعَمل مِن أجل المستقبل، أمّا النَّموذج الثَّاني؛ فهو السِّويسريُّ الذِي تَسببَت فِي صناعته، مُشَاركَة المرتزقة السِّويسريِّين فِي الحُروب الخارجيَّة؛ إِذ اِنتهَى مُسلسَل النِّزاعات السِّويسريَّة عام 1515 على إِثر هَزِيمَة فِي مَعرَكة خَارجِية، إِذ كان لِلمشاركة فِي مَعرَكة مارينيانو تحديداً دَور أساسِي فِي تَظهِير عَقد اِجتماعيٍّ جديد لِلعيش معاً فِي الكانتونات، وإعادة النَّظر بِالمشاركة فِي الحُروب الإقليميَّة، بَعد الخسائر الفادحة فِي الأرواح التِي تَكَبدهَا المحاربون السِّويسريُّون. فبدأت تَتَبلور قناعَات لَدى المجموعات السِّويسريَّة بِضرورة تَشكُّل مَنظُومة مُواطنيَّة، تَحصُر قِيم التَّضحية والفداء بِالحدود السِّياسيَّة لِلوطن، مِمَّا يَستدعِي عدم المشاركة فِي حُرُوب الآخرين. وقد وصفَت سِويسرَا نفسهَا بِأنَّهَا مُحَايدَة مُنذ عام 1674، فانتهجت الحيَاد سياسةً خَارجِيةً. بينمَا الأنموذج اللُّبنانيُّ الثَّالث لَا يَزَال يَتَخلَّق عَبر جُهُود لافِتة فِي الجانب النَّظَريِّ لِجهود المجتمع المدَنيِّ، بينمَا تَرتَفِع التَّحدِّيات والعقبات، التِي تَسببَت بِهَا الأزمات السِّياسيَّة الإسلامويَّة؛ وكَثافَة الولاءات الدِّينيَّة العابرة لِلحدود، التِي يتقدَّمهَا إِشكَال «حِزب اللَّه» اللُّبنانيِّ، إِذ أفرَزت تمزُّقاً دَاخلِياً، اِستجَاب لَه البعض بِطَرح صِيغ مُواطنَة مُجَزأة مِن فَرط الإحباط!

لَم يُمَثِّل الإِسلَامُ السِّيَاسِيُّ عَقَبَةً لِمَنظُومَةِ قِيَمِ المُواطَنَةِ فِي لُبنَانَ فَحَسبَ، بَل تَتَرَابَطُ نَظَرِيَّتُهُ الأسَاسِيَّةُ بِتَفكِيكِ الولَاءِ لِلدَّولَةِ ومُجتَمَعِهَا، هَذَا مَا عَالَجتْه دِرَاسَةٌ دَرَسَت جُذُورَ مُنَافَاةِ المُواطَنَةِ فِي حَالَتِي تَنظِيم «الإِخوانِ» فِي مِصرَ، وفِي العِرَاقِ.

انبَنَى الجِذرُ الأول لِهَذِهِ المُنَافَاةِ عَلَى حُزمَةِ مَفَاهِيمِ التَّكفِيرِ والتَّنفِيرِ القُطبِيَّةِ، وعَلَى رَأسِهَا «الجَاهِلِيَّةُ والحَاكِمِيَّةُ». أمَّا مُحَمَّد الحَدَاد، فَأكَّدَ عَلَى إِشكَالِيَّةِ الإِسلَامِ السِّيَاسِيِّ ودَورِهِ فِي تَشكِيلِ مَا يُسَمِّيهِ حَالَةَ «الدَّولَةِ العَالِقَةِ»؛ الَّتِي لَا يَستَطِيعُ المُجتَمَعُ إِكمَالَ مَدَاميكِهَا بِسبَب الفِخَاخِ الاسترَاتيجيَّةِ الَّتِي يَنصبُهَا الإِسلامَويُّون، ولَكنَّهُ حَاولَ تَقديمَ دَعوةٍ لدرَاسَة تَجَاربَ مُتعدِّدَةٍ، منها الحَالَةُ الإِندُونِيسِيَّةُ في الوُصُولِ إِلى دَولَةٍ بمَبَادِئَ مَدَنِيَّةٍ تُدِيرُ التَّنوُّع، مُنطَلِقَةً مِن حيَادِ تجَاهَ الدِّينِ والإثنِيَّةِ. ولتَقيِيمِ أثَرِ التَّجربَة التَّاريخيَّة، عَلَى رجال الدين المُعَاصرِينَ؛ تنَاولَت دِرَاسَةٌ تَعَقيبِيَّةٌ الوضعَ الإِندُونيسِيَّ الرَّاهِنَ، فِي شَخصِ الأمين العَامِّ الجَدِيد لجَمَاعَة «نَهضَة العُلَمَاء»؛ وأفكَاره الَّتي تُعَالجُ القَضايَا ذَاتَهَا، ممَّا يَدُلُّ عَلى أنَّ الجِدَالَ المَفتُوحَ لَم يَنغَلِق، ولَكِن تَخلَّق قِيَم المُواطَنَةِ، والمُمَانَعَة لَهَا، يَكتَسي بحَالةِ كُلّ دَولة، وأنَّ المفَاهِيمَ الكونيَّةَ وإِن تمَادَى صَلاحُهَا، يَجِبَ أن تَتَأقلَمَ.

تلك خلاصات من الكتاب هدفها الكشف عن حيل الحَرَكَات اَلمُتَطَرِّفَة؛ والجَمَاعَاتِ اَلإِسلَامَوِيَّة، اَلَّتِي تُحَاولُ توظِيفَ ثِمَارِ «قِيَمِ اَلْمُوَاطَنَةِ» لأَغرَاضٍ سِيَاسِيَّةٍ، نَزَعَت قِيَمَ المُوَاطَنَةِ مِن سِيَاقَاتِهَا، ووظَّفَتهَا ضِدَّ مَرَامِيهَا، وأَهمَلَت النَّظَرَ فِي جَوَانِبِهَا اَلْإِنسَانِيَّةِ اَلرَّئِيسَةِ مِن مُسَاوَاةٍ، وَتَسَامُح، وَحِوَار.

يثبت صدى الحدث أن القيم التي تغرسها المواطنة قد تتعرض للتحديات العالية، وهذا مما يؤرق استقرار مفهوم الدولة في مخيال المجتمعات في هذه المنطقة، ويزيد التحدي حين تكشّر الحركات المتطرفة عن أنيابها مستغلةً الحروب، ومستفيدةً من عاتيات الرياح. إن قيم المواطنة جزء لا يتجزأ من ضرورات تمتين مفهوم الدولة للاتجاه نحو قضايا الوطن بدلاً من الانغماس بمفاهيم أممية شمولية هي ضد المواطنة ومفارقة لقيمها.

arabstoday

GMT 20:40 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

عندما يعلو صوت الإبداع تخفت أصوات «الحناجرة»

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحدث السياسي وتحديات قيم المواطنة الحدث السياسي وتحديات قيم المواطنة



نجمات مصريات يجسّدن سحر الجمال الفرعوني في افتتاح المتحف المصري

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 22:52 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إقبال تاريخي على المتحف الكبير في مصر مع زيارات غير مسبوقة
 العرب اليوم - إقبال تاريخي على المتحف الكبير في مصر مع زيارات غير مسبوقة
 العرب اليوم - وزير الدفاع الإسرائيلي يأمر بتدمير جميع الأنفاق في قطاع غزة

GMT 16:15 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمم المتحدة تطلق حملة تطعيم واسعة للأطفال في غزة
 العرب اليوم - الأمم المتحدة تطلق حملة تطعيم واسعة للأطفال في غزة

GMT 10:05 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

ياسمين صبري تعلّق على افتتاح المتحف المصري الكبير
 العرب اليوم - ياسمين صبري تعلّق على افتتاح المتحف المصري الكبير

GMT 10:41 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

محاذير هدنة قصيرة في السودان

GMT 09:06 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

عمرو دياب يوقف حفله في دبي بسبب نيللي كريم وأحمد السقا

GMT 15:41 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

يامال يرفض المقارنات بميسي ويركز على تحسين أداء الفريق

GMT 16:15 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمم المتحدة تطلق حملة تطعيم واسعة للأطفال في غزة

GMT 10:58 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

مرقص حنا باشا!

GMT 10:59 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

مرة أخرى.. قوة دولية فى غزة !

GMT 11:40 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

.. وفاز ممداني

GMT 22:52 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إقبال تاريخي على المتحف الكبير في مصر مع زيارات غير مسبوقة

GMT 12:01 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

صدقوني إنها «الكاريزما»!

GMT 20:43 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إسرائيل تنفق ملايين الدولارات لتحسين صورتها في أميركا

GMT 11:53 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إحياء الآمال المغاربية

GMT 05:50 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل الوجهات العربية لقضاء خريف معتدل ومليء بالتجارب الساحرة

GMT 10:05 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

ياسمين صبري تعلّق على افتتاح المتحف المصري الكبير
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab