بقلم : يوسف الديني
مع عودة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن اليوم، يتَّضح أن المشهد لم يعد كما كان قبل سبع سنوات. فقد أصبحت المملكة اليوم طرفاً مركزياً في صياغة توازنات الشرق الأوسط، وقوة إقليمية تمتلك مشروعاً وطنياً متماسكاً، ورؤية استراتيجية أعادت تشكيل موقعها ودورها، وفي قلب هذا التحوَّل يبرز ولي العهد كما وصفته «نيويورك تايمز» بـ«الأمير الذي لا غنى عنه في الحسابات الإقليمية والدولية».
أعادت السعودية تموضعها في عالم اليوم المتشابك والفوضويّ من منظور مختلف يقوم على بناء القوة من الداخل قبل أي شيء آخر، فالمملكة انتقلت من التركيز على إدارة الأزمات إلى هندسة المستقبل، عبر مشروع وطني ضخم جعل التنمية والاستثمار في المواطن ركيزة السياسة العامة. هذا التوجه لم يكن انعزالاً عن العالم، بل تأسيس لنمط جديد من الشراكة تقوم فيه قوة الدولة على ما تبنيه داخلياً وما تقدمه من استقرار وقدرة على النمو وسط بيئة إقليمية شديدة الاضطراب.
وفي سياق العلاقات الدولية، يمكن قراءة هذا التحول ضمن إطار نظرية الفاعلية الاستراتيجية التي تنظر إلى الدولة بوصفها فاعلاً يصوغ مكانته عبر تحويل موارده إلى أدوات تأثير. وهذا ما فعلته المملكة عبر «رؤية 2030»: إعادة هيكلة الاقتصاد، وفتح أسواق جديدة، وتعزيز الابتكار، وتوطين الصناعات الدفاعية، والاستثمار المكثف في البنية التحتية والتقنيات المتقدمة؛ كل ذلك جعل السعودية ليست فقط قوة اقتصادية صاعدة، بل جعلها فاعلاً تقنياً وعسكرياً قادراً على إنتاج نفوذ مستدام.
ومع تطور هذه القوة، بات من الطبيعي أن تتجه المملكة إلى إعادة تعريف تحالفها مع الولايات المتحدة؛ فالعلاقة لم تعد مجرد امتداد لصيغة «الأمن مقابل الطاقة»، بل تحولت إلى شراكة أكثر اتساعاً تشمل التكنولوجيا المتقدمة، والصناعات الدفاعية، والاستثمار، والطاقة الجديدة، والأمن الإقليمي. إنَّ المملكة اليوم تدخل أي حوار استراتيجي من موقع المبادرة، مستندة إلى ثقل اقتصادي كبير، ووزن سياسي متنامٍ، وقدرة على إدارة ملفات المنطقة بواقعية وبراغماتية.
على المستوى الإقليمي أثبتت السعودية أنَّها قادرة على إدارة التحديات المحيطة من دون الانخراط في مشاريع صدامية أو توسعية، فالمقاربة السعودية تقوم على التهدئة، والحوار، وتنويع الشراكات، وتحصين الداخل من ارتدادات الأزمات، وهذا النهج جعلها عنصراً محورياً في أي تصور جاد لأمن الخليج، وفي أي نقاش حول مستقبل التوازنات الإقليمية، من اليمن إلى السودان، وصولاً إلى سوريا ولبنان، ومن العلاقات مع إيران إلى مسار القضية الفلسطينية.
وبالتوازي مع الدور السياسي، تقدّم المملكة اليوم أنموذجاً مختلفاً في المنطقة: نموذج التنمية بدل الآيديولوجيا، وبناء الدولة بدل المحاور، وجذب الاستثمار بدل تصدير الأزمات، وهو نموذج يرتكز على تمكين الشباب، ورفع كفاءة المؤسسات، والتحول الرقمي، وإطلاق مدن مستقبلية تشكل مختبراً للابتكار. وفي الوقت الذي انهارت فيه مشاريع مؤدلجة وتوسعية حول المنطقة، برز النموذج السعودي بوصفه الأكثر اتساقاً مع التحولات العالمية ومع تطلعات الشعوب إلى الاستقرار والنمو.
وإذا ما أردنا استشراف السنوات المقبلة فالمعطيات تؤكد أن الرياض في قلب الخيارات الكبرى التي ستواجه المنطقة: من شكل ترتيبات الأمن الإقليمي، إلى مستقبل الطاقة والاقتصاد، وصولاً إلى تحولات التكنولوجيا والممرات التجارية الجديدة، فالنموذج السعودي، القائم على الاستقرار والتنمية وتوازن العلاقات، يقدم صيغة واقعية للدول الساعية إلى تفادي الاستقطاب والانقسام. وبينما تتجه المنطقة إلى إعادة تعريف أولوياتها بعد موجات الاضطراب الطويلة، تبدو المملكة في موقع يمكّنها من رعاية تحولات سياسية واقتصادية تعيد بناء الجسور بين دول الإقليم، وتفتح الباب أمام تعاون أوسع في مجالات الأمن الغذائي والمائي، والطاقة النظيفة، والتكامل الاقتصادي. إن هذا التموضع يمنح السعودية قدرة متقدمة على التأثير في شكل الشرق الأوسط القادم، ليس من خلال القوة الصلبة وحدها، بل عبر نموذج استقرار يوازن بين التنمية الداخلية والدور الإقليمي الرشيد.
إنَّ قوة السعودية اليوم ليست نتاج خطاب سياسي ولا رهانات آنية، بل ثمرة مشروع وطني طويل المدى جعل من الداخل نقطة ارتكاز الدور الخارجي، فالمملكة التي استثمرت في الإنسان، وطورت اقتصادها، وبنت مؤسساتها، أصبحت شريكاً مطلوباً في كل معادلات الإقليم، ورقماً صعباً في حسابات القوى الكبرى.