رهان العقلانية السعودية في أزمنة الإبادة والصمت

رهان العقلانية السعودية في أزمنة الإبادة والصمت

رهان العقلانية السعودية في أزمنة الإبادة والصمت

 العرب اليوم -

رهان العقلانية السعودية في أزمنة الإبادة والصمت

بقلم : يوسف الديني

في الوقت الذي بلغ فيه النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي مرحلة تراجيدية من الإبادة إلى التجويع، ومن الاحتلال إلى العزل الكامل، تقدمت السعودية المتجددة بثقلها السياسي المتنامي لتلتقط لحظة مواتية حوّلتها إلى مسار دبلوماسي ذكي واقعي وواضح مسنود بتحركات وجهود حثيثة ومضنية نحو ما كان يُعد لزمنٍ طويل مستحيلاً: خلق إجماع عالمي على ضرورة إنهاء الحرب في غزة، والعودة إلى حل الدولتين بوصفه السبيل الوحيد لوقف المأساة وإنهاء الصراع.

منذ اللحظة الأولى لتأسيس المملكة العربية السعودية، لم تكن القضية الفلسطينية غائبة عن خطابها ولا عن سياساتها. فمنذ القمم العربية الأولى، إلى دعم انتفاضات الفلسطينيين، إلى مبادرات السلام التي لم تتوقف، كانت الرياض تنظر إلى فلسطين بوصفها اختباراً دائماً للضمير العربي، وبوصلة أخلاقية لا يمكن التفريط بها. لكن هذا التاريخ الطويل، الذي امتلأ بالمواقف والمبادرات، لم يُفضِ إلى حلٍ دائم، بل إلى سلسلة خيبات، تراجعت فيها فرص العدالة أمام عنف الاحتلال، وعُزل فيها الفلسطينيون خلف جدران الواقع والعجز.

قدّمت السعودية منذ «مبادرة فاس» عام 1981، ثم «مبادرة السلام العربية» في بيروت عام 2002، تصورات واضحة ومتزنة للحل الشامل، تقوم على الانسحاب مقابل السلام، وحق الفلسطينيين في دولتهم. وظلّت الرياض، رغم تغير الإدارات الإسرائيلية والتحولات الدولية، تُجدّد التزامها بمبدأ «لا تطبيع من دون حل عادل». لكن التَّصلب الإسرائيلي، والانقسام الفلسطيني، والانكفاء العربي، جعل من هذه المبادرات وثائق أرشيفية أكثر منها مشاريع حقيقية للتنفيذ.

ومع دخول القضية الفلسطينية نفقاً مظلماً جديداً بعد هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، والحرب الإسرائيلية المفتوحة على غزة، بدا أن كل خطوط الدفاع العربية تنهار، وأن إسرائيل لا تواجه مجرد سكوتٍ عالمي، بل تواطؤاً نشطاً، يحوّل المجازر إلى «حق في الدفاع عن النفس»، ويصمت أمام التجويع والتهجير والتدمير. في هذا السياق، لم تعد المبادرات الرمزية تكفي، ولا الكلمات المعتادة تُقنع. وهنا، برزتِ السعودية مجدداً، لكن بحراك مختلف أقرب إلى محاولة إنقاذ أخيرة، تقوده دولة لم تتخلّ، لكنَّها أدركت أن اللحظة تتطلَّب ما هو أبعد من التنديد.

خلال 18 شهراً، حققت الدبلوماسية السعودية ما عجزنا عنه في العالم لخمسة عقود من التنديد والبيانات رغم مبادرات كثيرة تم إجهاضها من قبل.

لم تلجأ الرياض إلى الشعارات ولا إلى أساليب الضغط القصير النفس، بل رسمت استراتيجية تراكميّة هادئة قائمة على البراغماتية والانضباط: ضبط الخطاب، تثبيت الاستقرار الاقتصادي، الامتناع عن التهديدات الرمزية، والضغط في العمق داخل برلمانات مجموعة السبع، ومجالس الإدارة الغربية، والمؤسسات الحقوقية العالمية، وهو ما ضرب في العمق شرعية السردية الإسرائيلية، وكان الثمن الباهظ أيضاً حجم المأساة الإنسانية المروعة في غزة من الأبرياء والمدنيين، وهذا ما أدى إلى تقويض ركائز الكيان الإسرائيلي الفكرية والأخلاقية في الوعي الغربي الشعبي والمدني بشكل أساسي والحكومي إلى حد كبير.

كانت الاستراتيجية السعودية واضحة ومباشرة بدأت بتصريحات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بأنَّ في المنطقة شركاء سلام متى ما توقفت الحرب، وتم نزع سلاح الميليشيات وإسقاط كل الحجج الإسرائيلية مع تقديم ضمانات مستدامة وأولها حل عادل وشامل يمكن تجسيده في «حل الدولتين»، ومنها كانت النتيجة أن فقدت إسرائيل تدريجياً سلاحها الأكثر فاعلية: خطاب الضحية في مواجهة الإرهاب إلا أنَّ المواقف السعودية ومعها دول الاعتدال ودول أخرى كانت ضد التهجير وأدى ذلك كله إلى تحرك دول كفرنسا وبريطانيا وكندا والتفكير في إعادة حساباتها، بدءاً من الاعتراف الرمزي بدولة فلسطين، ووصولاً إلى مراجعة العلاقات مع إسرائيل من بوابة حقوق الإنسان والقانون الدولي. وفي الولايات المتحدة، بدأت استطلاعات الرأي تظهر تراجعاً دراماتيكياً في دعم الحرب على غزة، خصوصاً في أوساط الأجيال الجديدة من طلاب الجامعات النواة الصلبة للمرحلة المقبلة والفئة الحاسمة في القرار الأميركي متى ما أخذنا موقفاً واضحاً من التطرف والإرهاب وإدانة قتل المدنيين من أي طرف.

الرسالة السعودية كانت مباشرة وواضحة: لا تطبيع من دون دولة فلسطينية قابلة للحياة. وليس هذا تكراراً لسياسات النفط في السبعينات بل باستراتيجية جديدة تستوعب ما سبق، وتبني عليه الرياض مسألة الاستقرار في الأسواق وضمان منطقة هادئة لمشاريع تنموية تربط بين الشرق والغرب ومناخات استثمارية مبنية على الثقة.

اللحظة المواتية أيضاً استغلتها السعودية من خلال إدانة سلوك إسرائيل في الضفة الغربية، وليس فقط في غزة، الأمر الذي بات يشكّل تهديداً مباشراً للاستقرار الإقليمي والدولي؛ فالسياسة الاستيطانية الحالية - التي يقودها وزراء اليمين المتطرف مثل سموتريتش وبن غفير- تسعى إلى خنق أي أفق سياسي للفلسطينيين عبر كماشة مزدوجة: قرارات حكومية لتوسيع المستوطنات من الأعلى، وهجمات عنيفة من المستوطنين الشباب من الأسفل. هذه الكماشة تطرد الفلسطينيين من قراهم، وتحوّل جيش الاحتلال إلى قوة حماية غير قادرة حتى على ضبط منسوب العنف.

وتسعى إسرائيل حالياً إلى ترسيخ وقائع ديموغرافية على الأرض، خصوصاً في مناطق مثل «E1» التي تربط شمال الضفة بجنوبها، لقطع التواصل الجغرافي الفلسطيني وإفشال أي إمكانية لقيام دولة متصلة. هذا النهج يهدد بتفجير الأوضاع لا فقط في غزة، بل في الضفة الغربية، حيث قتل المستوطنون والجيش قرابة ألف فلسطيني منذ أكتوبر 2023. كما أدَّى العنف اليهودي إلى مقتل مواطن أميركي في سنجل، وحرق كنائس في الطيبة، في تصعيد بدأ يستفز حتى داعمي إسرائيل التاريخيين.

هذه ليست معركة بيانات إعلامية، بل معركة سردية، قدمت فيها الرياض دوراً أخلاقياً وثقلاً دبلوماسياً كان له أبلغ الأثر ومن دون ضجيج وهو ما تُتقنه السعودية المتجددة والمحورية.

 

arabstoday

GMT 08:20 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

جبر.. وفن الحوار

GMT 08:15 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

خطوة بحجم زلزال

GMT 08:07 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

كوزموبوليتانية الإسلام السياسي

GMT 07:58 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

بور سعيد «رايح جاي»!

GMT 07:51 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

سيدة الإليزيه!

GMT 07:43 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

الأسئلة الصعبة؟!

GMT 07:31 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

العودة إلى الميدان!

GMT 07:22 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

إبادة شاملة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رهان العقلانية السعودية في أزمنة الإبادة والصمت رهان العقلانية السعودية في أزمنة الإبادة والصمت



البدلة النسائية أناقة انتقالية بتوقيع النجمات

بيروت ـ العرب اليوم

GMT 05:11 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

إسرائيل والزمن

GMT 06:05 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

إسرائيل... وأوان مواجهة خارج الصندوق

GMT 04:18 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

ترامب يفرض رسومًا جديدة للحصول على إتش- 1 بي

GMT 13:52 2025 الجمعة ,19 أيلول / سبتمبر

هل يوقظ شَيْبُ عبدالمطلب أوهام النتن ياهو ؟!

GMT 03:19 2025 الجمعة ,19 أيلول / سبتمبر

النفط دون تغير يذكر وسط مخاوف بشأن الطلب

GMT 03:38 2025 الجمعة ,19 أيلول / سبتمبر

سلسلة انفجارات متتالية تهز مدينة غزة

GMT 03:23 2025 الجمعة ,19 أيلول / سبتمبر

«أبل» تستعد لإطلاق أرخص «ماك بوك» في تاريخها
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab