زيارة ترمب بوابة الرياض التي لا بدَّ منها

زيارة ترمب: بوابة الرياض التي لا بدَّ منها

زيارة ترمب: بوابة الرياض التي لا بدَّ منها

 العرب اليوم -

زيارة ترمب بوابة الرياض التي لا بدَّ منها

بقلم : يوسف الديني

لم يعُد مشهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب وهو يهبط في مطار الرياض مجرد تكرار لزيارة بروتوكولية كما كانت الحال في عام 2017.

جرت مياه كثيرة، العالم اليوم تغيّر، والولايات المتحدة تغيّرت، والخليج تغيّر كذلك، لكن السعودية أخذت قصب السبق في تحولها السريع وصعودها قوة إقليمية فاعلة تقدم أنموذجاً مغايراً سيسهم حتماً في صناعة «جيوسياسية الاستقرار» لمنطقة الشرق الأوسط.

زيارة ترمب الجديدة، في مطلع ولايته الثانية، تعكس معادلة معكوسة غير مألوفة: الرئيس الأميركي في مهمة للبحث عن الاستقرار والدعم، في منطقة طالما وصفها المتعجلون سابقاً بأنها ساحة نفوذ أميركي، لكنهم اليوم يدركون حجم التحولات الكبيرة على مستوى الشراكات وتنوعها والإرادة السياسية، للتأثير في المنطقة إيجابياً. السعودية المتجددة بقوتها الاقتصادية، ووزنها السياسي، ونموذجها التنموي، باتت تملي بذكاء وعقلانية شروط الشراكة المبنية على ركيزة السيادة.

في هذه الزيارة، لم تعُد الرياض مجرد محطة بروتوكولية تُفتتح بها ولاية أميركية جديدة، بل أصبحت وجهة لا بد منها لأي رئيس أميركي يبحث عن شريك موثوق في عالم تتغير توازناته، وتتآكل فيه أدوات الهيمنة التقليدية. ترمب، الذي طالما قدّم نفسه صانعاً لخرائط النفوذ، يجد نفسه هذه المرة في موقع مَن يحتاج إلى الخليج أكثر مما يحتاج الخليج إليه، في لحظة فارقة تكشف بوضوح انتقال مركز الثقل السياسي في الشرق الأوسط، وربما أبعد من ذلك، والوصف قاله أكثر الشخصيات هجوماً على دول الاعتدال سيمون تيسدال معلق الشؤون الخارجية في «الغارديان»، مما يدل أيضاً على تحول في التلقي لواقع جديد بالمنطقة.

تأتي هذه الزيارة في وقت تُعاني فيه الولايات المتحدة من مسائل عدة، لا سيما بعد إخفاقات طويلة الأمد في ملفات مثل العراق وأفغانستان، وتذبذب سياساتها تجاه حلفائها. في المقابل، رسّخت السعودية مكانتها قوة استقرار إقليمي، وفاعلاً دولياً وازناً، يملك مقومات السيادة الاقتصادية، والقدرة على المبادرة السياسية، والدخول في صلب الملفات الدولية الحساسة، لا بوصفها طرفاً تابعاً بل وسيطاً يُعتدّ برأيه ودوره.

السعودية، التي كانت تُقدَّم في العقود الماضية بوصفها خزّان طاقة أو حليفاً أمنياً، أصبحت اليوم قوة متعددة الوظائف، قادرة على الجمع بين الدبلوماسية الواقعية، والاستثمار طويل الأمد في التحولات الاقتصادية، والتأثير المباشر في بنية النظام الإقليمي والدولي. ولعل أبرز ما يميز الدور السعودي في السنوات الأخيرة هو قدرتها على لعب أدوار تفاوضية تتجاوز حدود الإقليم، إلى أن تصبح منصة موثوقة في وساطات كبرى، مثل المحادثات الروسية - الأوكرانية، واستضافة قمم متعددة الأطراف، وتسهيل خطوط الاتصال بين قوى متصارعة كإيران والولايات المتحدة، أو الغرب والصين.

ترمب، العائد إلى المنطقة، يزور الرياض هذه المرة وهو في حاجة إلى دعم اقتصادي مباشر، سواء عبر استثمارات خليجية في السوق الأميركية، أو عبر خفض أسعار النفط لتخفيف الضغوط التضخمية على الداخل الأميركي. لكنه يأتي أيضاً مدفوعاً بحاجته إلى مواقف سياسية متزنة في ملفات معقدة مثل إيران، وغزة، واليمن، وسوريا، بعدما أثبتت الوقائع أن واشنطن لا تملك وحدها مفاتيح الحل، وأن سياساتها السابقة، سواء في عهد بايدن أو في ولايته الأولى، لم تُنتج سوى مزيد من التأزيم أو الجمود إذا أردنا وصفاً مخففاً لعواقب المقاربات السابقة للولايات المتحدة منذ عهد أوباما.

الرياض لا تنظر إلى هذه الزيارة على أنها فرصة لتأكيد التحالف التقليدي، بل بوصفها لحظة اختبار لمفهوم الشراكة نفسه. لم تعُد السعودية تقبل أن يُطلب منها أداء أدوار مجانية، ولا أن تتحمّل تكلفة خيارات أميركية أحادية، بل باتت تتحرك ضمن رؤية استراتيجية تؤمن بالتوازن، وتراهن على التعددية، وتُدير مصالحها بحسابات سيادية دقيقة. ومن هذا المنطلق، فإن دعم الاستقرار في أسعار الطاقة، أو التفاعل مع مشاريع اقتصادية أميركية، أو حتى الانخراط في مسار تفاوضي بشأن إيران، كلها باتت مشروطة بفهم أميركي جديد لطبيعة التحولات في الخليج، وفي السعودية بشكل خاص.

الموقف من إيران، على سبيل المثال، تغيّر جذرياً. فبعد أن كانت الرياض تُراهن على الحماية الأميركية المباشرة في مواجهة تهديدات طهران، أصبحت الآن تعتمد على مزيج من الاحتواء والتفاوض، وقد أثمرت هذه المقاربة عن استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إيران بوساطة صينية، في خطوة لم يسبقها فيها أي عاصمة دولية. هذا التحول لم يأتِ من موقع ضعف، بل من فهم سعودي عميق بأن الاستقرار الإقليمي لا يُفرض بالقوة، وأن الانخراط الذكي في مسارات التهدئة يحقق من المكاسب ما لا تحققه المغامرات العسكرية. ترمب، الذي طالما لوّح بالخيار العسكري، يأتي اليوم طالباً مخرجاً دبلوماسياً، بعدما خذلته التجارب السابقة، وأدرك أن الخليج ليس مستعداً للدخول في حروب جديدة بالوكالة، أو مباشرة.

أما ملف غزة، فقد بات من أكبر التحديات أمام ترمب، الذي يتعرض لضغوط إسرائيلية مزدادة لتبرير أو تغطية العملية العسكرية المفتوحة. لكنه في المقابل يواجه موقفاً سعودياً صارماً: لا تطبيع من دون وقف العدوان، وبدء مسار حقيقي لإقامة الدولة الفلسطينية. السعودية هنا لا تتحدث بلسان الشعوب العربية فقط، بل بمنطق الدولة المسؤولة التي تدرك أن تجاهل القضية الفلسطينية، أو تحويلها إلى ملف ثانوي، سيؤدي إلى تأجيج التطرف وزعزعة الاستقرار في كل المنطقة. ومن هنا، فإن كل ما يطلبه ترمب في هذا الملف، من دعم رمزي أو سياسي، لن يُمنح له من دون أثمان واضحة، وضمانات حقيقية، تعيد الاعتبار للحل العادل والشامل.

حتى في ملف سوريا، الذي حاولت واشنطن تركه في الهامش، تعمل الرياض على إعادة إنتاج مقاربة مختلفة، تؤكد فيه على سوريا موحدة ومستقرة يسهم في بنائها كل السوريين من دون تمييز، وتفتح باب إعادة الإعمار، وتُغلق باب التمزق والفوضى. هذا التحرك، الذي يحظى بدعم عربي واسع، يحتاج إلى شراكة دولية حقيقية، ولا يمكن أن ينجح من دون تراجع واشنطن عن سياسات العقوبات العقيمة، والمراهنة على الفوضى. ترمب، إذا أراد أن يُقدّم نفسه رئيساً يعيد التوازن إلى الشرق الأوسط، فعليه أن يُنصت لهذا التوجه، لا أن يُجهضه بمنطق الصفقات المؤقتة أو الانحياز السياسي.

زيارة ترمب لحظة اختبار لإدارته، أكثر مما هي لحظة اختبار للسعودية. فالأخيرة قدّمت للعالم نموذجاً في الاستقرار وسط الإقليم المضطرب، ونجحت في دمج السياسة بالتنمية، والاقتصاد بالثقافة، وفتحت أبوابها للعالم من دون أن تتنازل عن سيادتها. وهي بذلك لا تطلب من واشنطن سوى معادلة بسيطة: الاحترام المتبادل، والشراكة المتوازنة، والتفاهم على المصالح الكبرى، لا الاستتباع أو الابتزاز.

إن هذه الزيارة لا تختبر فقط مدى مرونة ترمب، بل تختبر أيضاً قدرة الولايات المتحدة على الاعتراف بتحول موازين القوى. لم تعُد واشنطن قادرة على فرض رؤيتها من علٍ، بل عليها أن تتفاوض، وتُصغي، وتعيد ترتيب أولوياتها على ضوء ما تفرضه الرياض وأبوظبي والدوحة من معادلات جديدة. لقد أصبح الخليج كتلة متجانسة، وليس عبئاً جيوسياسياً؛ بل هو فاعل أساسي في تفاعلات النظام العالمي مع منطقة معقدة كالشرق الأوسط.

ما ستسجله هذه الزيارة في تاريخ العلاقات الأميركية - الخليجية، هو أنها لحظة فارقة في انتقال مركز الثقل، حين وجدت القوة العظمى نفسها أمام عواصم خليجية، لا تنتظر الضوء الأخضر، بل تكتب سياساتها بأقلامها، وتُفاوض من موقع القوة، لا المجاملة. وبهذا المعنى، فإن نجاح ترمب في ولايته الثانية، إن حصل، سيمر حتماً من بوابة الرياض. أما فشله، فسيكون نتيجة مباشرة لعدم فهمه لما أصبح عليه الخليج اليوم: مركز قرار لا يمكن تجاوزه!

 

arabstoday

GMT 03:13 2025 الثلاثاء ,13 أيار / مايو

المنطلق

GMT 03:11 2025 الثلاثاء ,13 أيار / مايو

ترمب... العودة الثانية للرياض

GMT 03:09 2025 الثلاثاء ,13 أيار / مايو

الرياض وواشنطن: التحالف في الزمن الصعب

GMT 03:06 2025 الثلاثاء ,13 أيار / مايو

مصير لبنان يحتاج مخيلة مختلفة

GMT 03:03 2025 الثلاثاء ,13 أيار / مايو

حول زيارة ترمب وتحوّلات الإقليم

GMT 03:00 2025 الثلاثاء ,13 أيار / مايو

هل تدخل طرابلس حرباً أخرى؟

GMT 02:57 2025 الثلاثاء ,13 أيار / مايو

دوافع الطلب على النفط وسط الحروب التجارية

GMT 02:51 2025 الثلاثاء ,13 أيار / مايو

كرم الفراعنة!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

زيارة ترمب بوابة الرياض التي لا بدَّ منها زيارة ترمب بوابة الرياض التي لا بدَّ منها



النجمات العرب يتألقن بإطلالات أنيقة توحّدت تحت راية الأسود الكلاسيكي

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 05:39 2025 الإثنين ,12 أيار / مايو

هل الحلّ ينهى الصراع؟

GMT 17:47 2025 الأحد ,11 أيار / مايو

الهند وباكستان.. ودرس أن تكون قويا

GMT 13:28 2025 الأحد ,11 أيار / مايو

مستوطنون يهاجمون فلسطينيين جنوب الخليل
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab