بقلم : طارق الشناوي
الرواية فرنسية «القناع والريشة».. والفيلم التقط المعنى العميق فأصبح «ساحر الكرملين».
الأحداث فى روسيا تتشابك مع بداية صعود بوتين- رجل المخابرات- لسدة الحكم، مع نهاية عصر يلتسين.. تغيير جذرى لنظام الحكم الأفقى ليصبح الهرم الرئاسى عموديا؛ حيث كان طوال زمن الاتحاد السوفيتى أفقيا؛ أى أنه يخضع فى النهاية لأكثر من رأى رئاسى (ثلاثة) بينما بعد (البروسترايكا) 1991 صار القرار تملكه قيادة واحدة.
وفى هذا المناخ جاء (القيصر) بوتين لحكم روسيا، إلا أن الأحداث تبدأ مع يلتسين، لمحة مهمة فى محاكاة الشخصية الواقعية، لدينا صورة ذهنية عن هذا الرجل العجوز ضخم الجثة خفيف الظل الذى جاء له كرسى، إلا أنه لم يكن مؤهلا للقيادة، دائما مغيّب عن الواقع، كثيرا ما يخذله جسده، وهنا يبرز دور (الميديا) فى الخداع. يلتسين لا يستطيع الحضور إلى الاستوديو، عليهم إذن أن يقيموا ديكور الاستوديو داخل محل إقامته.
المعضلة الثانية، الرئيس رغم أنه يقرأ من شاشة (أوتوكيو) أى أن الكلمة مكتوبة أمامه، إلا أن إيقاع أدائه متلعثم وسوف يكشف الشعب اللعبة، وهنا يتم اللعب بـ (الخطة رقم 2 ) وهى أن يأخذوا كلمات من خطاباته القديمة ويتم تركيبها على حركة شفتيه، إلا أنه فى نهاية المشوار يجد نفسه أمام اختيار واحد وهو التقدم باستقالته العلنية للرأى العام، وهو فى الواقع لم يكن يحكم روسيا، ولكن الأجهزة هى التى تصدر الأوامر وهو يوقع عليها، ويوحى الرجل فى خطاب التنحى بأنه يترك روسيا لرجل المرحلة وكأنه يقصد (القيصر) بوتين، هكذا رسم (ساحر الكرملين) خيوط اللعبة وكأنه لاعب ماريونيت يحرك الدمى أمامه .
على المستوى المباشر، نحن بصدد فيلم خيالى، الشخصية المحورية (ساحر الكرملين) لا وجود واقعى لها، إلا أنها تستند إلى حقيقة يعرفها كل من اقترب من دائرة الحكم فى روسيا، الدولة العميقة تمسك بكل الخيوط.
أنت هنا لن تحاسب الفيلم عن الحقيقة ولكن عن مدى صدق الخيال ، ولا يمكن الزعم بأن المشاهد سيجد خطًّا فاصلًا بين الواقعة بكل تفاصيلها والواقع الذى ندركه بالوثيقة، فهو مدوّن فى كل الفضائيات والمنصات وشاشات الكمبيوتر.. وهكذا تعامل الجمهور مع الشاشة بواقعية. كانت أوكرانيا هى المعضلة الكبرى، رغم أن تمرد (الشيشان) بتوجهها الأصولى أحدث انزعاجا وشرخا وتوجسا روسيًّا، إلا أن الثغرة هى (أوكرانيا)، منذ أن أسقط شعب أوكرانيا الرئيس الموالى لروسيا وجاء بزيلينسكى فنان وممثل كوميدى، لا يزال قادرا على الصمود رغم أن أمريكا فى عهد ترامب من الممكن أن تبيعه فى لحظات .
المخرج الفرنسى اوليفييه اسايانس يقدم كل الشخصيات ناطقة بالانجليزية، رغم أنها واقعيا من المفروض أن تنطق الروسية، هذا هو الاتفاق الضمنى بين صانع العمل الفنى والجمهور، وكثيرا ما رأينا مثلا عددا من الأفلام الفرنسية تدور أحداثها فى باريس إلا أن الشخصيات كلها تنطق بالانجليزية. الفارق بين صانع عمل فنى وآخر يكمن فى قدرته على إلغاء هذا الإحساس بالتناقض بين قانون الواقع وقانون الفن.. فى النهاية تحكمك الرؤية الافتراضية و(الترمومتر) قدرة المخرج على إقناعك بالقانون الذى أراده للفيلم، الفيلم
الناطق بالانجليزية يضمن تحقيق دائرة تسويق أكثر اتساعا، ولهذا يكثر استخدامها افتراضيا.
(ساحر الكرملين) من أهم الاختيارات الجيدة لفريق المبرمجين فى مهرجان «البحر الأحمر».. والعنوان: كيف تصنع الزعيم؟ وكيف يدمر الزعماء من صنعوهم؟!