بقلم : طارق الشناوي
كانت أمنية المخرج اللبنانى الراحل مارون بغدادى أن يجد متسعًا من الوقت لكى يقدم حياته أو جزءا منها على الشاشة، استهلك الجزء الأكبر من طاقته فى نضاله من أجل الدفاع عن أفلامه وإيجاد معادلات إنتاجية خارج الإطار التقليدى، تتيح له تنفيذ أحلامه لم تمنحه القدرة على تنفيذ هذا الحلم الساكن فى أعماقه، رغم انك لو تأملت أفلامه ستجد فى عدد من شخصياته شىء من مارون، وجاء فيلم (ثريا حبى) يحمل الكثير من مشاعر مارون هو لم يوثقها فى حياته على شريط سينمائى ولكن أرملته نيكولا بغدادى فعلتها.
مارون مخرج استثنائى، حصد من مهرجان (كان) على جائزة لجنة التحكيم مناصفة مع المخرج العالمى لارس فون تراير عن فيلم (خارج الحياة) ١٩٩١ قبل رحيله بعامين لتصبح من المرات القليلة التى حققنا فيها عربيا جوائز كبرى، ليس الآن مجال رصدها.
التقيت مارون بغدادى فى العديد من المهرجانات مثل (القاهرة) و(قرطاج) و(كان)، ودائمًا هو مبهر فى أفلامه مثلما هو مبهر فى حواره الشخصى، يتمتع بخفة ظل بقدر ما يحمل من عمق.
موته كان، وأظنه لايزال لغزا، ما تردد وقتها أن قدمه قد انزلق قبل أن يستقل أسانسير المنزل ونزف فى القاع حتى الموت، وتعددت الاتهامات فى الداخل والخارج، ولم تصل أبدًا إلى شاطئ اليقين، ولكن ما تبقى أن مارون ظلت أفلامه تتنفس عبر الشاشات.
قررت ارملته الفنانة الاستعراضية ثريا بغدادى أن تقدم حياته فى فيلم باقتراح من مخرجه نيكولا خورى.
ثريا راقصة فى فرقة لبنانية شهيرة لا تزال تقدم عطاءها حتى الآن فى مجال الغناء والاستعراض (كاراكلا).
تعودنا أن رسالة الحب عادة من الأحياء للموتى، ولكن بلمحة ذكية جدا اختار المخرج نيكولا خورى (ثريا حبى)، وكأنها رسالة من مارون إلى ثريا التى شاركت فى كتابة السيناريو كما أنها أمدته بالمادة الوثائقية المصورة التى احتفظ بها مارون، ثريا كانت شريكته فى الحياة وهى جزء حميم من حالته السينمائية، لا يعنى ذلك أنها أضافت إليه مباشرة ولكنها استوعبت الكثير من أحلامه وأفكاره وعملت على تحقيقها، الشريط يقدم لنا علاقة حقيقية بينهما، هى لا تزال تعيش بكل جوارحها معه، تأملت كلمة حبى (مونامور) بالفرنسية وقالت إنها بتحريف بسيط تصبح (مارون) على اسمه، من المشاهد العميقة فى ظلالها، وهى تنتقل بسيارتها المكشوفة على سيارة نقل بينما تترك عجلة القيادة لمارون، السيارة تحكى من قلبها الكثير من التفاصيل بينهما، مأساة الرحيل الذى تحول إلى لغز لم يكن أبدا موضوعها، لأنه سيستمر أيضًا لغزًا، وربما يزداد غموضًا، من الأسهل مثلا أن نرى حالة من البكاء والدموع، بينما على الشاشة الأمر لم يزد عن كونه وداعًا لمارون فى الكنيسة لم يستمر سوى دقائق معدودة، كما أن المخرج لم يلجأ للحل الأسهل لتقديم أصدقائه وعدد من أفراد أسرته للحديث عنه كل منهم يقدم إطلالة، لنرسم فى النهاية (بورتريه) للفقيد، خصوصية هذا الشريط وأيضا سر تفرده أنه لجأ إلى العمق وقرر أن يطل بعيون ثريا بغدادى على مارون بغدادى، وينقل هذا الحوار الهامس بينهما عبر الشاشة، بدون أى لمحة مبالغة فى التعبير، أو الاستغراق فى التأكيد على الفقدان.
الشريط يشارك فى مسابقة الرسمية للأفلام الطويلة، حافظ المخرج أن تظل البهجة هى العنوان، نيكولا خورى ذهب إلى منطقة إبداعية منحت الشريط ألقًا وخصوصية اتكأ على صدق ثريا بغدادى، التى تحدثت من قلبها بلسان مارون بغدادى!!.