بقلم : خالد منتصر
ما زال السرطان يمثل تحدياً للعلماء، يطرقون كل الأبواب، حتى باب عالم الحيوان لم يتركوه، لجأوا للحيوانات التى تعانى من السرطان بنسبة نادرة أو قليلة ليعرفوا سر تلك المقاومة، والمدهش أنهم وجدوا ضالتهم فى الفيل، الذى أتمنى ألا ينقرض قبل أن يطلعنا على السر، بالطبع لا أتمنى انقراضه أبداً فهو حيوان جميل، والأهم أنه معلم فى مجال بيولوجيا السرطان، ماذا تقول أحدث الأبحاث التى ناقشت لماذا الفيل لا يصاب بالسرطان بنفس النسبة التى يصاب بها البشر؟ نعرف أنه كلما انقسمت خلية، هناك احتمال لحدوث طفرة (خطأ) فى الحمض النووى DNA - وهى المادة التى تحمل المعلومات الوراثية فى جميع الكائنات الحية.
هذه الطفرات يمكن أن تؤدى إلى الإصابة بالسرطان، وإذا كانت جميع الخلايا معرضة لاحتمال مماثل لحدوث طفرات مسببة للسرطان، فمن المفترض أن الحيوانات الكبيرة وطويلة العمر -التى لديها عدد أكبر من الخلايا وتنقسم خلاياها أكثر- يجب أن تُصاب بالسرطان بمعدل أعلى من الحيوانات الصغيرة وقصيرة العمر ذات الانقسامات الخلوية الأقل، لكن فى عام 1977، لاحظ السير ريتشارد بيتو أن معدلات الإصابة بالسرطان عند الأفيال التى هى أكبر من البشر بـ100 مرة وتعيش من 60 إلى 70 عاماً، معدل إصابتها بالسرطان منخفض جداً، اقترح بيتو أن الاعتبارات التطورية قد تفسر هذا التفاوت فى معدل الإصابة بالسرطان لكل خلية بين الأنواع المختلفة، هذه المقاومة المفاجئة للسرطان لدى الحيوانات الأكبر حجماً والأطول عمراً، مثل الفيلة، أصبحت تُعرف بـ مفارقة بيتو (Peto’s Paradox)، قدمت الأبحاث بعدها أول بيانات تجريبية توثق معدلات السرطان عبر الأنواع دعماً لمفارقة بيتو، أظهرت أن وفيات السرطان لا تزداد مع زيادة حجم الجسم أو طول العمر، بل إن بعض الحيوانات الأكبر والأطول عمراً قد تُصاب بالسرطان بنسبة أقل.
فمثلاً معدل وفيات السرطان لدى الفيلة أقل من 5%، مقارنةً بمعدل يتراوح بين 11% و 25% لدى البشر، لقد أتيحت للفيلة 55 مليون سنة من التطور لتتعلم كيف تقاوم السرطان، ولا بد أن نستفيد منه فى علاجات السرطان، ما هى خطوات البحث؟ تم دراسة الجينوم الخاص بالفيل الأفريقى بحثاً عن تغييرات فى الجينات المسببة للسرطان (oncogenes) والجينات الكابحة للأورام (tumor suppressor genes)، الجينات المسببة للسرطان تدفع الخلايا للنمو بشكل خارج عن السيطرة، فى حين أن الجينات الكابحة للأورام تُبطئ من الانقسام الخلوى، هذان النوعان من الجينات يلعبان دوراً محورياً فى السرطان، وقد يساعدان فى تفسير آليات مقاومة السرطان لدى الفيلة، كشفت التحليلات عن اكتشاف مذهل وهو أن الفيلة تُعبّر عن عدد كبير من النسخ الإضافية من الجين الكابح للأورام المعروف باسم TP53، يُطلق على TP53 لقب «حارس الجينوم» بسبب قدرته على حماية الخلايا من تراكم الطفرات التى تسبب السرطان، عندما يُكتشف تلف فى الحمض النووى، يتدخل TP53 ليوقف انقسام الخلية حتى يتم إصلاح التلف، وإذا تعذر إصلاح التلف، فإن الجين يُطلق عملية «الموت المبرمج للخلايا» أو (apoptosis) للتخلص من الخلايا التالفة قبل أن تصبح سرطانية، هناك ملاحظة سابقة تثبت أهمية هذا الجين وهى أن الأشخاص الذين يعانون من متلازمة لى-فرومينى (Li-Fraumeni Syndrome) لديهم طفرة فى إحدى نسختى جين TP53، ويواجهون خطراً يتجاوز 90% للإصابة بالسرطان مدى الحياة.
هذا الخطر المرتفع يوضح مدى أهمية TP53 فى حمايتنا من السرطان، عمل مختبر جامعة يوتا على دراسة الخلل فى استجابة تلف الحمض النووى لدى المصابين بمتلازمة لى-فرومينى، وعندما اكتشف أن الفيلة تقاوم السرطان بشكل طبيعى، ولديها 20 ضعف كمية TP53 مقارنة بالبشر (40 نسخة لدى الفيلة مقابل نسختين لدى البشر الأصحاء)، تعاونت الجامعة مع الدكتور كارلو مالى، وهو عالم فى تطور السرطان، وكان له دور فى اكتشاف هذا العدد الزائد من TP53 لدى الفيلة، وتم استخدام أدوات البحث السريرية لقياس كيفية استجابة خلايا الفيلة لتلف الحمض النووى، تماماً كما تم فى الأبحاث على مرضى متلازمة لى-فرومينى، وتم التعاون مع حديقة حيوان هوغل فى يوتا (التى تملك فيلة أفريقية) ومع سيرك رينغلينغ براذرز وبارنوم بيلى (الذى يملك فيلة آسيوية) للحصول على عينات دم من هذه الفيلة خلال الفحوصات الصحية الروتينية، وبعد الموافقة أجريت التحاليل عليه، أُرسلت عينات الدم إلى المختبر، حيث عرّضت كريات الدم البيضاء (الخلايا اللمفاوية) للإشعاع المؤين لإحداث تلف فى الحمض النووى، ثم روقب مدى سرعة إصلاح التلف فى خلايا الفيلة مقارنة بخلايا البشر، لوحظ أن نسبة الخلايا التى خضعت للموت المبرمج كانت أعلى بكثير لدى الفيلة، ثم أجريت تجارب أكثر دقة لمقارنة نسب موت الخلايا لدى الفيلة، والبشر، ومرضى متلازمة لى-فرومينى. وجدنا أن نسبة الموت المبرمج تتناسب مع عدد نسخ TP53:
الفيلة: 5% خطر إصابة بالسرطان
البشر: 50% تقريباً
متلازمة لى -فرومينى: 90%
مما يعنى أن زيادة نسخ TP53 تجعل الخلية أكثر فاعلية فى القضاء على الخلايا ما قبل السرطانية، إذن لا بد أن نتعلم من الفيلة لنساعد البشر، فقد تم إثبات أن جين TP53 عند الفيلة يساعدها على التخلص من الخلايا المتضررة قبل أن تتحول إلى خلايا سرطانية، وهذا قد يُفسر سبب مقاومة الفيلة للسرطان.