يعود تاريخ دولة قطر في المفاوضة والوساطة بين المتنازعين لأكثر من عقدين. الأشهر في مساعيها للسلم ما كان الطرف الآخر فيه إسرائيل وأميركا. لذلك كان غريباً إصرار إسرائيل على ضرب “حماس” في قطر، لأنّ أميركا وإسرائيل هما اللتان اختارتا قطر مقرّاً للحركة، وكان يمكنهما المطالبة بإخراجها. المقصود بضرب قطر النيل من مناعة مجلس التعاون وموقفه الصلب. المشكلة في الموقف الأميركي الذي يلهث وراء بنيامين نتنياهو.
دأبت قطر خلال عقدين وأكثر على شنّ السلام على الحرب. كانت وسيطاً في عشرات الأزمات، وكانت دائماً في شراكةٍ مع الولايات المتّحدة ولا فرق بين الإدارات الجمهوريّة والإدارات الديمقراطيّة. وربّما منذ خمسة عشر عاماً دخلت في الوساطة بين إسرائيل و”حماس”.
تاريخ “حماس” مع قطر طريفٌ ومعقَّد. في أواخر تسعينيّات القرن الماضي كان قسمٌ من قيادة “حماس” ومنه خالد مشعل ما يزال مقيماً في عمّان. يومها قام خبراء إسرائيليون بتسميم مشعل، فجُنّ جنون الملك حسين بن طلال وأرغم الإسرائيليّين على معالجته بسمٍّ مضادّ بشرط أن يغادر مع زملائه عمّان.
بيد أنّ القيادة الحماسيّة ما لبثت بقطر طويلاً، وذهب معظم أعضائها إلى دمشق. وأذكر أنّني سألتُ رئيس وزراء قطر الأسبق حمد بن جاسم في مناسبة في لبنان عام 2006 أو 2007: لماذا أرسلتم قادة “حماس” إلى دمشق؟ ألا تعرفون أنّهم سيصبحون حلفاء لإيران ولـ”الحزب”؟! أجاب منزعجاً: أرادوا مدارس إسلاميّةً لأولادهم وما كانت موجودةً في قطر! ظلّ الحماسيّون في دمشق حتّى عام 2013 أو 2014 عندما اتّهمهم بشّار الأسد بالمشاركة في الثورة السوريّة والقتال في مخيذم اليرموك. هكذا خرجوا جميعاً من سورية، وبقي بعضهم من غير ذوي الأهميّة في بيروت. أمّا القادة المهمّون فقد توزّعوا في قطر وتركيا. وفي حين صلُحت علاقات تنظيم الجهاد الإسلامي مع نظام بشّار وإيران، لم تصلح علاقات “حماس” تماماً على الرغم من تدخّل حسن نصرالله وآخرين. أمّا مع إيران فظلّت العلاقات ممتازة.
شاع قبل عام والعمليّات في أوجها والمفاوضات جارية في مصر والدوحة أنّ الإسرائيليّين يضغطون لإخراج “حماس” من الدوحة
الدّوحة وسيط دائم
في حروب “حماس” المتوالية مع إسرائيل ظلّت الدوحة وسيطاً إلى جانب القاهرة. ما كان للأميركيّين دورٌ في البداية، ثمّ بدؤوا يتدخّلون بقوّة لوقف النار بعد عام 2018 – 2019. وجدوا ذلك ضروريّاً لإحساسهم إلى جانب الإسرائيليّين بعمق علاقة “حماس” مع إيران، وتأثير ذلك في تسليحهم وفي دخولهم على خطّ سياسات “الحزب”. كان شائعاً أنّ إسماعيل هنيّة ومحمد الضيف ويحيى السنوار وثيقو العلاقة بإيران في حين لم يكن خالد مشعل كذلك.
المهمّ أنّ قطر صارت ضروريّة لـ”حماس” ولإسرائيل. ويقال إنّه حصلت صفقة بين الأطراف الثلاثة قطر وإسرائيل و”الحركة” تحصل بمقتضاها “حماس” من قطر على فوائد بعلم إسرائيل مقابل محافظتها على الهدوء وعدم إزعاج إسرائيل.
على أيّ حال وبالطبع من دون معرفة قطر ومصر، شنّت “حماس” غزوتها على جوار قطاع غزّة في 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل عام 2023. وربّما بعد أسبوع من بدء الاشتباك بدأت الوساطة القطريّة والمصريّة. وما كان أحد يعرف حتّى في إسرائيل نوايا نتنياهو للغزو الأرضيّ الشامل. مع أنّ العالم كلّه وعلى رأسه أميركا كان مع إسرائيل، فقد كان الجميع وفي طليعتهم المصريون والقطريون يتحسّبون ويسعون كالعادة إلى وقف الحرب.
وقتها شاع القول القطريّ المأثور: شنّ السلام على الحرب بدلاً من شنّ الحرب على السلام. نجحت الهدنة الأولى التي كان الجميع يأمل تجديدها، لكن بعد تمكّن دونالد ترامب في الإدارة اتّفق مع نتنياهو على إنهاء مشكلة غزّة، إمّا بالتهجير أو بالإخضاع العسكري الشامل. وبعد ذلك، أي بعد القضاء على “حماس”، يمكن التفاوض على مَنْ يحكم غزّة بشرط أن لا يكون أبو مازن كما يريد العرب والأوروبيّون.
تأخّر ترامب في إخبار ويتكوف لإبلاغ الفلسطينيّين والقطريّين بأنّ الإسرائيليّين يغيرون عليكم
إبقاء “حماس” في الدّوحة
شاع قبل عام والعمليّات في أوجها والمفاوضات جارية في مصر والدوحة أنّ الإسرائيليّين يضغطون لإخراج “حماس” من الدوحة. لكنّ الأميركيّين قالوا إنّهم بحاجةٍ لبقائهم في الدوحة بدلاً من تركيا أو إيران.
قطر
قبل ستّة أشهر طرح الرئيس ترامب مبادرة تتضمّن هدنةً لستّين يوماً يخرج خلالها قسم من الرهائن. ثمّ عند تجديد الهدنة يخرج القسم الآخر من الأحياء وتخرج الجثث في القسم الثالث. كان ستيف ويتكوف هو المفاوض على الصفقة، وتنقّل بين “حماس” في قطر وإسرائيل. ويُقال إنّه رأى مفاوضين حماسيّين في تركيا أيضاً.
كان ويتكوف متفائلاً بالصفقة. إنّما من وراء ظهره اتّفق نتنياهو مع ترامب على أنّه لا يجوز “تغنيج” حركة حماس بهذه الطريقة، وقد كانت تدنو من الموافقة بعد ضغوطٍ قطريّة ٍ شديدةٍ عليها.
أزعج إسرائيل كثيراً أنّ علاقات قطر تتقدّم مع مبعوثي الرئيس ترامب وكبار عسكريّيه، وأنّهم في الوقت نفسه كانوا مشاركين بقوّة في المساعي السعوديّة من أجل التقدّم في المجال الدوليّ وكسْب فرنسا، حتّى كان المؤتمر المعروف للاعتراف بالدولة بالأمم المتّحدة الذي أثار غضب نتنياهو وترامب: كيف يخرج الأوروبيّون عن الطاعة في أمرٍ مهمٍّ كهذا؟ وإذا كان لا يمكن مواجهة السعوديّة علناً فلتكن المواجهة مع قطر، والحجّة سهلة أنّها تؤوي “حماس” وإن يكن ذلك بعلم أميركا وتأييدها.
ثلاثة أهداف للإسرائيليّين
لدى إسرائيل ثلاثة أهداف ليس من بينها بحسب الأَولويّة استهداف قادة “حماس”:
– الأوّل: مجلس التعاون الخليجي الذي واجه إسرائيل منذ البداية بمطلبَي وقف الحرب، والسير في حلّ الدولتين، حقّق إنجازات كبيرة وينبغي وقفه.
– الثاني: لا ينبغي أن تقوم علاقة عمل وثيقة بين “حماس” والمبعوثين الأميركيّين.
– الثالث: هناك معلومات عن خطّة (شاملة) لوقف النار صاغها مساعدو ترامب ويوشك الرئيس كما قال مراراً أن يعلنها، وينبغي إفشالها.
المهمّ أنّ الضربات جرت في بلاد الخليج المصونة والحليف الأوثق للرئيس ترامب، وبخاصّةٍ قطر
لمّا أعلن ترامب خطّته الشاملة: وقف النار وإطلاق كلّ الرهائن وتبادل الأسرى من دون مراحل وإن تكن هناك مدّة لوقف النار تقرّر تنفيذ العمليّة. إنّما المشكلة أنّ ويتكوف طلب من القطريّين إقناع قيادة “حماس” بالمجيء إلى الدوحة من تركيا وربّما من لبنان لتسهيل التفاوض: فهل كانت الإدارة تتآمر على مبادرة الرئيس؟ أم الجميع داخلون إمّا بالمشاركة أو بالتواطؤ؟!
على كلّ حال تأخّر ترامب في إخبار ويتكوف لإبلاغ الفلسطينيّين والقطريّين بأنّ الإسرائيليّين يغيرون عليكم، وعندما أبلغهم الرجل كانت الانفجارات الناجمة عن الضربات قد بدأت قبل عشر دقائق! وإذا كان التبليغ متأخّراً فلماذا نجا القادة الحماسيّون؟ قيل إنّهم أُبلغوا من مصر ومن تركيا فغيّروا مكان اجتماعهم أو لم يجتمعوا وتركوا هواتفهم بعيدة.
لا عذر للأميركيّين
كلّ هذه التفاصيل ليست مهمّة، بل المهمّ أنّ الضربات جرت في بلاد الخليج المصونة والحليف الأوثق للرئيس ترامب، وبخاصّةٍ قطر. ولا عذر للأميركيّين لأنّ عندهم في قطر قاعدة ضخمة. ويستطيع الرئيس الأميركي ولو بعد بدء رحلة الطيران أن يوقف الطائرات كما فعل في حالة إيران.
ما حصل شيء من ذلك، وإن قال ترامب إنّ الضربة ليست من مصلحة أميركا وإسرائيل. لكنّ ترامب الذي أظهر اعتزازه بالصداقة القطريّة رفض أن تُذكر إسرائيل في قرار الإدانة في مجلس الأمن فقُيّدت الضربة والإدانة ضدّ مجهول.
يعود تاريخ دولة قطر في المفاوضة والوساطة بين المتنازعين لأكثر من عقدين. الأشهر في مساعيها للسلم
الأكثر تذمّراً من الخليجيّين، على الرغم من أنّ الجميع تضامنوا، هم السعوديّون والإماراتيّون. انعقد اجتماع عربي وإسلامي كبير في الدوحة أوّل من أمس الأحد للتضامن وربّما أكثر. وبعد حضور قرار الإدانة بمجلس الأمن، ذهب رئيس وزراء قطر ووزير خارجيتها محمد بن عبدالرحمن آل ثاني إلى وشنطن لمقابلة وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو ثمّ عاد إلى نيويورك لمقابلة الرئيس الأميركيّ. وما يزال القطريّون يؤكّدون أنّهم مستمرّون في الوساطة، وأنّهم يشنّون السلام على الحرب (!). لكنّ المفاجأة كانت فظيعة، لأنّ أحداً لم يصدّق بضرورة الغارة ولا بأهدافها ولا بموقف ترامب الحقيقي منها!
لا سقف فوق رأس أحد
ملاحظتان مهمّتان:
– الأولى: قطر الوسيط النزيه تلقّت ضربتين إحداهما من إيران، والأخرى من إسرائيل!
– الثانية: لا سقف فوق رأس أحد حتّى حلفاء أميركا، بل ويمكن أن تكون قد تآمرت عليهم.
إقرأ أيضاً: قمّة المسلمين في الدوحة: هل تكبح جماح إسرائيل؟
هل تتغيّر السياسات الأميركية؟ لا يبدو ذلك جارياً أو واضحاً، فماذا يفعل صُنّاع السلام؟ كيف يتوقّف ذلك المخاض الضخم المغمّس بالدم والخراب؟ ثمّ إذا ظلّت الميليشيات المسلّحة قادرة على إثارة الحروب، فسلام على الدولة وعلى الاستقرار. وفي هذه الحالة لماذا لا ينتهز نتنياهو الفرصة كما يقول دائماً.