بقلم - أمينة خيري
عشت أغلب سنوات عمرى وأنا أشرب من مياه «الحنفية». كان الوالد أحيانًا يسمع عن «فلتر» مياه ظهر فى الأسواق، عبارة عن قطعة أشبه بالكرة الكاوتشوك يتم تركيبها فى آخر «الحنفية» ومزودة فى الداخل بكرة صغيرة من القطن، ويقوم بتغييرها يوميًا.
كنا السكان الوحيدين فى العمارة الذين نحظى بشرب مياه مرت بمرحلة التنقية هذه. وأغلب الظن أن الغالبية المطلقة من المصريين كانت تشرب المياه من «الحنفية» رأسًا، باستثناء ربما بعض الأمهات اللاتى كن يغلين المياه قبل تقديمها للصغار.
لا أتذكر على وجه التحديد بداية ظهور عبارة «مياه معدنية» فى حياتنا. ربما تكون البداية مع رحلات الحج وحب الاستطلاع وبزوغ عصر المنتجات المستوردة فى عصر «الانفتاح» و«المنطقة الحرة» فى بور سعيد. أتذكر أن هذا كان بداية معرفتى بـ«الكانز» (عبوات المياه الغازية المعدنية) وربما زجاجات المياه الفوارة.
على أى حال، ظلت «مياه الحنفية» المصدر الوحيد للشرب لملايين المصريين على مدار عقود، بل كان المحرومون من مياه الشرب النظيفة فى العديد من القرى ينظرون إلى «مياه الحنفية» باعتبارها رفاهية وحلمًا بعيد المنال.
بداية عهدى بلافتة «مياه غير صالحة للشرب» و«مياه صالحة للشرب» الموضوعة أعلى صنابير المياه فى الأماكن العامة كان فى بريطانيا. تعجبت فى البداية، ولكن مع امتداد فترة الإقامة لسنوات، أصبح «الفلتر» البدائى، وهو عبارة عن دورق مياه مزود بفلتر يتم تغييره كل بضعة أسابيع.
وأعود إلى مصر، ومع تنقلى من شمال القاهرة إلى جنوبها، ثم شرقها، عرفت أن جودة أو صلاحية مياه الحنفية للشرب تختلف من مكان لآخر. رؤى العين أخبرتنى أن مياه الحنفية فى شبرا فى التسعينيات مثلًا كانت أفضل من مثيلتها فى مصر الجديدة. ومع التمدد العمرانى وظهور المجتمعات الجديدة، وانتشار الفنادق والمنتجعات فى الغردقة وشرم الشيخ وغيرهما، بدأت أسمع عن شكاوى من مياه الشرب، ولونها، ووجود رواسب فيها، ولكن – أكرر- الأسباب ظلت غامضة بالنسبة لى.
أتذكر متابعة تغطيات الإعلام الخاصة بشكاوى المواطنين فى مناطق عدة قبل سنوات عن «اصفرار» المياه، أو رائحة كريهة فيها، وردود المسؤولين التى كانت غالبًا تتراوح بين «اللون الأصفر يكون نتيجة عطل تم إصلاحه»، أو أن الرائحة هى لمطهرات المياه ولا ضرر منها.
اليوم، انقلبت منظومة مياه الشرب رأسًا على عقب. أسكن الشروق منذ نحو ثمانى سنوات، وعلى مدار هذه السنوات، أصبح جزءا معتبرا من ميزانية البيت مخصصًا لشراء المياه. هذا الجزء تضاعف ووصل إلى أرقام غير مسبوقة فى السنوات الأخيرة. قارورة المياه التى كان سعرها ١٩ جنيهًا تباع بـ٩٠ و٩٥ جنيهًا.
وبعيدًا عن مصداقية أو خطأ أو الغرض مما أثاره الشابان صانعا المحتوى عن جودة، لا مياه الشرب، بل «المياه المعدنية» – والتى هى بالمناسبة ليست معدنية، بل مياه شرب تمت تنقيها قبل تعبئتها- يفتح ملف «مياه الحنفية» فى مصر.