بقلم : جميل مطر
دائما ومنذ سنوات مراهقتى ثم شبابى، عشت مغرمًا بالمستقبل. أسرنى غموضه وغموض كل ما يتعلق به. كم من مرة وقفت وأنا صغير وراء جارة أو قريبة من قريباتى وهى تقرأ الفنجان لأمى أو خالتى. أسمع صفات عن رجل أو سيدة وطفل وصور لقطار أو طائرة لتخلص قارئة الفنجان فى النهاية إلى قصة محبوكة وقابلة للتصديق الفورى. صارت من هواياتى متابعة حكايات قارئة الفنجان أو ورق الكوتشينة أو الودع، أستمع بشغف بالغ إلى عمل يدل على براعة فى تأليف روايات استنادا إلى «تهيئات» هى أولًا وآخرًا من صنع خيالات خصبة.
• • •
هكذا بدأت علاقتى بالمستقبل ثم تطورت مع تقدمى فى السن من مرحلة إلى أخرى واختلاطى بمن هم أكبر وأعلم. من هؤلاء من تطوع بتطمينى إلى أن جانبًا من الواقع، أى الحقيقة، لا بد من أن يكون معروفًا لقارئة الغيب كما للباحث فى موضوع المستقبل. هكذا وبالتدريج تكثفت الهواية لننتقل معًا إلى إدمان أفلام وكتب الخرافات العلمية ومن هنا بدأنا رحلة الصعود من الهواية إلى الاحتراف فصار لنا مركزًا أكاديميًا متخصصًا فى دراسات ما كان يعرف بعلوم المستقبل.
• • •
جاء وقت توقفت فيه عن حضور جلسات يقرأ فيها الفنجان أو جلسات تلقى فيها المحاضرات عن أحدث أساليب قراءة المستقبل. علمتنى محاولات قراءة المستقبل بالفنجان كما بالبحوث الأكاديمية ألا أغفل، إن حاولت استقراء المستقبل، عن ضرورة استحضار الماضى والإلمام بالحاضر والاستفادة من خبراتهما وتجاربهما للنفاذ إلى جانب أو آخر من جوانب المستقبل.
• • •
ثم جاء يوم جمعة من أيام خريف القاهرة الممتع بخضرته ونقاء جوه ونعومة شمسه وتنوع فاكهته واحمرار مياه نيله، اجتمعت فى بيتى عائلتى الصغرى كعادتها فى مثل هذا اليوم من كل أسبوع. أجلس فى مكان لا يتغير، أشاهد وأتأمل مفكرًا ومحللًا وأنتهى كما بدأت ساكتًا، لا أعلق على ما دار وما سمعت وما لاحظت. يومها رأيت الصغيرة التى بالكاد وقفت على قدميها قبل أسبوع أو اثنين، وهى حفيدة لابنتى الأكبر، رأيتها قادمة من الممشى الخارجى للبيت تركض فى اتجاه قنينة نستخدمها فى رش أصص الزهور. تحبها لأنها تقضى معها وقتًا نوعيًا جميلًا. شدتنى إليها حركتها الدائبة فى المكان من شخص لآخر ومن أصيص زهور لآخر. لا تطلب من أمها إلا الطعام والنوم كل فى حينه لا يتغير موعدًا أو موقعًا. خطر على بالى أكثر من مرة أن أتساءل ساكنًا، أليس ما تفعله بالنسبة لجدول أنشطتها خلال بقية اليوم أفعله أنا نفسى وبيننا عشرات السنين فى الخبرة والتجربة.
• • •
حاجتنا إلى تلبية رغبات وإشباع حاجات، ومنها الفضول، كانت بلا شك وراء شغفى للغوص فى دراسة المستقبل. كان صديقى ومعلمى الصحفى الكبير يرى عجزًا فى فضولى. كيف لشخص ينوى احتراف هذه المهنة وعنده عجز فى الفضول. توصلنا معًا فى نهاية المطاف إلى أن هذا العجز إن وجد فلا شك أن أهلى مسئولون عنه لكثرة تعنيفى إن سألت الضيوف عن أمور هى من قلب خصوصياتهم. نشأت أتجنب التفاصيل وخصوصيات البشر، بمعنى آخر نشأت غير مؤهل للتخصص والغوص فى فرع مهم من فروع مهنة الصحافة. لذلك احتاج الأمر، وإن تأخر، إلى تدريب مطول لتقوية حاسة الملاحظة والانتباه إلى التفاصيل ودقائق الموقف.
• • •
ساعدنى ثراء الماضى على تعزيز القدرة على اقتحام المستقبل، أو على الأقل انتظاره أو توقعه. انتظر منه الخير وأتوقع بعض الشر. كنت، وما أزال، مغرما بتتبع دورات التاريخ بالنسبة للأمم، لكن أيضًا بالنسبة للعائلات الممتدة، ما بقى منها. توصلت فى مرحلة صارت بعيدة إلى ما يقترب، مع التواضع، من نظرية افتراضها الأساسى هو أن المرأة، وليست الرجل، كانت فى أغلب الحالات وراء «تمدد» العائلات. كانت المرأة، الجدات والخالات والزوجات، المتغير الفاعل فى اختيار زوجات لصبيان العائلة وأزواج لبناتها، وفى الغالب الأعم يقع الاختيار ضمن العائلة والعائلات الأقرب. أعتقد أن هذه الممارسة النسائية حافظت على استقرار العائلات الكبيرة الممتدة وفى الوقت نفسه كانت الوسيط فى التعامل مع المشكلات العائلية العادية.
جلست، الجمعة الماضية، أراقب صغيرتنا وهى تتنقل بين الحاضرين تسترضى أمها وتداعب القريبات الأكبر سنًا. تهتم بالصغيرات فى العائلة لسبب مفهوم وتهتم بالكبيرات لأسباب متنوعة تنوع حاجاتها ورغباتها. أراقبها وأتساءل إن كانت هى الأخرى سوف تختار زوجًا لها شابًا من خارج العائلة والعائلات القريبة. أتساءل إن كانت سوف تخضع لمتطلبات عصرها وتنأى بنفسها عن متطلبات العائلة الكبيرة وتبدأ، كما فعلت أمها وخالاتها، رحلة النزوح خارج دوائر التكافل الأسرى تلبية لدعوة متطلبات عصر مختلف.
• • •
أظن، آسفًا ومتحسرًا، أن هذه الصغيرة ما كانت لتضيف إلى شجرة العائلة التى اختفت من دولاب أبى قبل ثمانين سنة، فهى إن قررت الزواج ففى الغالب أو شبه المؤكد أنها ستختار غريبًا عن العائلة وربما عن الوطن. أتساءل: لماذا الأسف ولماذا الحسرة، ألم أكن أنا نفسى أحد أهم عناصر توقف تمدد عائلتنا الممتدة؟