بقلم: دكتور زاهي حواس
فى عام 1830 ميلاديًا، وقّع محمد على باشا، والى مصر، على مرسوم بإهداء مسلتى معبد الأقصر إلى فرنسا، وذلك توطيدًا لعلاقات الصداقة بين مصر وفرنسا التى كان محمد على يرى أنها ضرورية لمساعدته على تحديث مصر ونقلها من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، عصر المدارس والمصانع. وفى حقيقة الأمر، من قام باختيار الهدية هو العالم الشاب الفرنسى جان فرانسوا شامبليون، الذى كان له فضل فك شفرة اللغة المصرية القديمة، وبالتالى لم تعد حضارة الفراعنة صامتة بل تتحدث إلينا وتحكى لنا كل أسرار الماضى المجيد.
بالفعل تم قبول الهدية بل والشرط الذى وضعه محمد على، وهو أن تتكفل فرنسا بكل تكاليف النقل! وعلى أثر ذلك قامت الحكومة الفرنسية بإرسال مجموعة من أمهر مهندسيها لوضع خطة نقل المسلتين ليجد المهندسون الفرنسيون أنفسهم أمام تحدٍّ صعب قد يصل إلى المستحيل!، إن كل مسلة تم قطعها من كتلة واحدة من الجرانيت الوردى وتزن كل واحدة حوالى 220 طنًا، وقد تم نصبهما بنجاح بواسطة مهندسى وعمال الملك رمسيس الثانى أمام معبد الأقصر بعد أن أضاف إليه الملك صالة الأعمدة والمدخل «البيلون» الجديد!، وبالتالى وبعد حسابات دقيقة وجد المهندسون الفرنسيون أن تكلفة نقل المسلتين ستكون باهظة للغاية، وسوف تكبد الخزانة الفرنسية أموالًا طائلة قد تؤدى إلى إلغاء المشروع برمته بل ورفض الهدية المصرية القيمة!، ولذلك اقترح المهندسون القيام بنقل مسلة واحدة فقط وترك توأمتها فى مكانها على أن يتم نقلها هى الأخرى لاحقًا إلى فرنسا.
وبالفعل تم بناء سفينة خاصة مسطحة يمكنها الإبحار فى نهر النيل وفى البحر المتوسط، أطلقوا عليها اسم «الأقصر». وقد تم حفر قناة من النيل لتصل قريبًا من موضع المسلة، وبعد إنزال المسلة من موضعها الذى ظلت عليه كل هذه القرون بل أكثر من ثلاثة آلاف سنة، تم وضع المسلة على السفينة وبعدها تم الانتظار لوصول فيضان النيل، فيتم رفع المركب وتعويمه وصولًا للنهر، ثم الإبحار شمالًا إلى البحر المتوسط، والقيام برحلة طويلة يلف خلالها المركب حول إسبانيا، ثم الصعود فى نهر السين وصولًا إلى باريس. استغرقت الرحلة وعمليات الإنزال عامين كاملين من 1831م حتى 1833م. وكان الملك لويس فيليب قد اختار ساحة الكونكورد لنصب المسلة بهدف محو ذكريات الإعدامات المؤلمة التى حدثت فى تلك الساحة خلال الثورة الفرنسية، وكان ممن قطعت رؤوسهم بالمقصلة فى تلك الساحة ملكة فرنسا الشهيرة مارى أنطوانيت.
يعتبر يوم 25 أكتوبر 1836م يومًا تاريخيًا فى تاريخ فرنسا الحديث، فهو اليوم الذى شهد نصب المسلة فى موضعها الحالى فى ساحة الكونكورد، وقد استمرت الاحتفالات لعدة أيام احتفالًا بالحدث التاريخى.
الغريب أنه حتى عام 1981 كان من حق حكومات فرنسا المطالبة بأخذ المسلة الأخرى من أمام معبد الأقصر، وذلك حسب مرسوم الإهداء الموقع من محمد على باشا!!، ولكن ما حدث هو أن طلبت الحكومة المصرية من حكومة فرنسا التنازل رسميًا عن النصف الثانى من الهدية!، وهو بالفعل ما قام به الرئيس الفرنسى فرانسوا ميتران، وبذلك احتفظت مصر بواحدة من مسلتى الملك رمسيس الثانى أمام معبد الأقصر. وقد طرأ على المسلة فى ساحة الكونكورد بعض الإضافات خلال السنوات الماضية، أهمها قيام فرنسا بتغطية قمة المسلة بهريم (هرم صغير) ذهبى، وذلك فى عام 1998م. وبعدها تم تخطيط ساعة شمسية فى ساحة الكونكورد تكون المسلة وظلها هما مؤشر تلك الساعة.
وكانت الحكومة الفرنسية قد قامت بإهداء محمد على ساعة عملاقة ميكانيكية، قام بنصبها فى القلعة ولاتزال فى موضعها إلى اليوم، وذلك ردًا على هديته السخية لفرنسا!، وبالطبع لم تكن مسلة الأقصر هى الهدية الفرعونية الوحيدة التى قدمها محمد على لفرنسا، حيث سمح فى عهده وعهد أبنائه وأحفاده بخروج آلاف القطع الأثرية، إما على شكل إهداءات أو عمليات بيع إلى فرنسا وغيرها من الدول، نذكر منها قيامه بإهداء شامبليون عدد عشرين صندوقًا ضخمًا مليئة بالآثار. والسؤال الذى دائمًا ما يدور فى مخيلتى هو: هل لو كان الفرعون رمسيس الثانى- صاحب مسلتى معبد الأقصر- يعلم ما سوف يحدث لواحدة منهما ونقلها لآلاف الأميال بعيدًا عن موطنها، هل كان سيقوم بقطعها من محجرها بأسوان ثم نقلها إلى الأقصر؟! أعتقد أن الفرعون كان سيفكر ألف مرة قبل الإقدام على ذلك، والحمد لله أن أجدادنا الفراعنة لم يكونوا ممن يستطلعون المستقبل وإلا لكانوا قد فكروا ألف مرة قبل تكبدهم كل هذا العناء فى البناء والتشييد والتعمير. إن الشىء الوحيد الذى يجب علينا فعله لنبرهن على أننا ممتنون وفخورون بما تركه لنا الفراعنة العظام هو ألا نتنازل أبدًا عن أى أثر سُلب منا أو خرج بطريقة غير شرعية!.