بقلم - تركي الدخيل
وَمَا زِلْنَا نَعْرِضُ أَعْجَازَ أَبْيَاتِ شِعْرٍ لِأَبِي الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي، سَارَتْ أَمْثَالاً، فَقَدْ أَقَرَّ الْمُحِبُّ وَالْمُبْغِضُ بِأَنَّ مِنْ مَزَايَا شِعْرِ أَبِي الطَّيِّبِ، إِرْسَالَ الْمَثَلِ فِي أَنْصَافِ الْأَبْيَاتِ...
(138)
وَيَسْتَصْحِبُ الإِنْسَانُ مَنْ لَا يُلَائِمُهْ
يُبَيِّنُ الْمُتَنَبِّي فِي هَذَا الشَّطْرِ جَانِبَاً مِنْ غَرَائِبِ طِبَاعِ الْبَشَرِ، فَفِيْ بَعْضِ اخْتِيَارَاتِ الْإِنْسَانِ الَّتِي يُصِرُ عَلَيْهَا مَا يُؤْذِيْهِ.
عِنْدَمَا يَخْتَارُ الْإِنْسَانُ رِفْقَةً لَا تُوَافِقُهُ وَلَا تُنَاسِبُ طَبْعَهُ، فَإِنَّهُ يُفْسِدُ رَاحَتَهُ وَسَلَامَ نَفْسِهِ بِيَدِهِ.
لَفْظَةُ «يَسْتَصْحِبُ» تُوحِي بِالْخِيَارِ الْمُتَعَمَّدِ، كَأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَّخِذُ بِإِرَادَتِهِ مَا يُنَغِّصُ حَيَاتَهُ، وَيُعَكِّرُ مِزَاجَهُ، بَيْنَمَا تُشِيرُ جُمْلَةُ «لَا يُلَائِمُهْ»، إِلَى تَنَافُرِ الطِّبَاعِ، وَتَبَايُنِ الْأَفْكَارِ.
لَفْظُ كَلِمَةِ «يُلَائِمُهْ»، بِتَسْكِينِ الْهَاءِ فِي آَخِرِهَا، يُضْفِي عَلَى الشَّطْرِ إِيقَاعاً سَلِساً، يَتَنَاسَبُ مَعَ الْمَعْنَى التَّحْذِيرِيِّ الَّذِي يَحْمِلُهُ.
يُلْقِي الْمُتَنَبِّي الضَّوْءَ عَلَى اخْتِيَارَاتِ الْبَشَرِ الَّتِي تُنَاقِضُ فِطْرَتَهُمْ، مُبَيِّناً أَنَّ إِصْرَارَ المَرْءِ عَلَى مَا فِيْهِ ضَرَرُهُ، يَعْكِسُ ضَعْفَ الإِنْسَانِ وَجَهْلَهُ.
فِي بَيَانِ خُطُوْرَةِ الصَاحِبِ، يَقُوْلُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ»، مُحَذِّراً مِنْ أَثَرِ الصُّحْبَةِ عَلَى النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ، مُؤَكِّداً أَنَّ انْتِقَاءَ الصَدِيْقِ مُهِمَّةٌ جِدُّ مُهِمَّةٍ!
كَمَا أَكَّدَ الْحُكَمَاءُ أَنَّ الرِّفْقَةَ الْمُنَاسِبَةَ تُرِيحُ النَّفْسَ وَتُحَقِّقُ لَهَا الِاتِّزَانَ، بَيْنَمَا غَيْرُهَا تُزْعِجُهَا وَتُثِيرُ التَّنَازُعَ.
الْإِيقَاعُ فِي هَذَا الشَّطْرِ يَحْمِلُ نَبْرَةً تَأَمُّلِيَّةً، كَأَنَّ الْمُتَنَبِّي يَدْعُو الْإِنْسَانَ لِإِعَادَةِ التَّفْكِيرِ فِي اخْتِيَارَاتِهِ.
وَفِي ذَلِكَ يَقُوْلُ أُمَيَّةُ بن أَبِي الصَّلْتِ:
وَمَا غُرْبَةُ الإِنْسَانِ فِيْ بُعْدِ دَارِهِ
وَلَكِنَّهَا فِيْ قُرْبِ مَنْ لَا يُشَاكِلُ
(139)
وَفِي المَاضِي لِمَنْ بَقِيَ اعْتِبَارُ
يُقَدِّمُ أَبُو الطَّيِّبِ فِي هَذَا الشَّطْرِ حِكْمَةً خَالِدَةً، تَدْعُو إِلَى التَّأَمُّلِ وَالْعِظَةِ، بِمَا سَبَقَ وَمَنْ مَضَى وَمَا فَاتَ وَانْقَضَى.
الْمَاضِي مَدْرَسَةٌ عَظِيمَةٌ، يَتَعَلَّمُ مِنْهَا الْعُقَلَاءُ، بِأَخْذِ الْعِبَرَ مِنْ أَحْوَالِ مَنْ عَبَرْ، وَاسْتِخْلَاصِ دُرُوسِ الْأُمَمِ وَالْبَشَرِ
كَلِمَةُ «اعْتِبَارُ» تَحْمِلُ مَعْنَى التَّفَكُرِ وَالِاتِّعَاظِ، وَتُضْفِي عَلَى الشَّطْرِ إِيقَاعاً مُتَّزِناً، يَحْمِلُ نَبْرَةً حَكِيْمَةً، تُنَاسِبُ حِكْمَةَ الْمَعْنَى.
قَالَ حَكِيمٌ: كَفَى مُخْبِراً عَمَّا بَقِيَ مَا مَضَى.
وَيَقُولُ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: «مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ بِالْمَاضِي، ضَيَّعَ الْحَاضِرَ»، مُؤَكِّداً أَهَمِيَّةَ ذَلِكَ فِي بِنَاءِ الْمُسْتَقْبَلِ.
وَأَكَّدَ الْحُكَمَاءُ أَنَّ التَّارِيخَ مِرْآةٌ تُظْهِرُ الخَيْبَاتِ وَالنَّجَاحَاتِ، لِمَنْ يَتَأَمَّلُ فِيهَا بِعَيْنِ الْمُعْتَبِرِ الْعَاقِلِ.
قِيلَ: لَمْ يَحْكُمْ عَلَى الْعُقُولِ حَاكِمٌ كَالْعِبَرِ، وَلَمْ يَحْكُمْهَا مُحْكَمٌ كَالتَّجْرِبَةِ.
كَأَنَّ الْمُتَنَبِّي فِي هَذَا الشَّطْرِ يُخَاطِبُ الْعُقُولَ الْمُتَفَكِّرَةَ الَّتِي تَبْحَثُ عَنِ الْحِكْمَةِ.
إِنَّهُ يُذَكِّرُنَا كَمْ فِي الْمَاضِي مِنَ الدُّرُوسِ الْبَلِيغَةِ وَالْقِصَصِ الْمُفِيدَةِ، لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْيَا بِعَقْلٍ وَاعٍ، وَبَصِيرَةٍ ثَاقِبَةٍ.
(140)
شَرُّ البِلَادِ مَكَانٌ لَا صَدِيقَ بِهِ
الصَّدِيقُ: هُوَ الْمُصَادِقُ لَكَ، وَمَصْدَرُهُ صَدَاقَةٌ، وَاشْتِقَاقُ الصَّدِيقِ مِنْ كَوْنِهِ صَدَقَهُ الْمَوَدَّةَ وَالنَّصِيحَةَ، وَهُوَ الْخِلُّ أَوِ الْخَلِيلُ. وَالصَّدِيقُ لِلذَّكَرِ، وَالصَّدِيقُ لِلْأُنْثَى كَذَلِكَ.
وَهَذَا الشَّطْرُ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَوَارِزْمِيُّ فِي: (الْأَمْثَالُ الْمُوَلَّدَةُ)، وَأَوْرَدَهُ ضِمْنَ بَيْتِهِ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ فِي (الْأَمْثَالُ السَّائِرَةُ مِنْ شِعْرِ الْمُتَنَبِّي).
وَالشَّرُّ: ضِدُّ الْخَيْرِ، وَهُوَ السُّوءُ.
وَشَرُّ الْبِلَادِ: أَكْثَرُ الْبِلَادِ سُوءاً، وَهِيَ الَّتِي لَا تَجِدُ فِيهَا صَدِيقاً يُؤْنِسُ وَحْشَتَكَ، وَيَصْدُقُكَ فِي مَوَدَّتِكَ، وَيُشَارِكُكَ آَلَامَكَ وَآمَالَكَ، وَيَفْرَحُ لِفَرَحِكَ، وَيَحْزَنُ لِحُزْنِكَ، وَيُذْهِبُ عَنْكَ الْهَمَّ وَالْغَمَّ بِمُسَامَرَتِهِ لَكَ، وَمُعَاوَنَتِهِ إِيَّاكَ.
يَقُولُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ:
سَلَامٌ عَلَى الدُّنْيَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بِهَا صَدِيْقٌ صَدُوقٌ صَادِقُ الْوَعْدِ مُنْصِفَا
وَاعْتَبَرَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ الْخَضِرُ حُسَيْنُ: «فِي اتِّخَاذِ صَدِيقٍ حَمِيمٍ لَذَّةٌ رُوحِيَّةٌ يَدْرِكُهَا مَنْ يَسَّرَ اللهُ لَهُ أَنِ انْعَقَدَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ ذَوِي الْأَخْلَاقِ النَّبِيلَةِ، وَالْآدَابِ الْعَالِيَةِ مَوَدَّةٌ، وَلَا مَنْشَأَ لِهَذِهِ اللَّذَّةِ الرُّوحِيَّةِ إِلَّا الشُّعُورُ بِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الرَّجُلِ النَّبِيلِ الْمُهَذَّبِ مِنْ صَدَاقَةٍ. وَصَدِيقُ الْفَضِيلَةِ هُوَ الَّذِي يَجِدُ فِي لِقَاءِ صَدِيقِهِ ارْتِيَاحاً وَابْتِهَاجاً، وَيَعُدُّ الْوَقْتَ الَّذِي يَقْضِيهِ فِي الْأُنْسِ بِهِ مِنْ أَطْيَبِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي لَا تَسْمَحُ بِهَا الْأَيَّامُ إِلَّا قَلِيلاً، ثُمَّ إِنَّ الصداقة تَسْتَدْعِي بِطَبِيعَتِهَا جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ، أَوْ دَفْعَ الضَّرَرِ، فَإِنَّهَا تَبْعَثُ الصديق عَلَى أَنْ يَدْفَعَ عَنْ صَدِيقِهِ الْأَذَى بِمَا عِنْدَهُ مِنْ قُوَّةٍ، وَتَهُزُّهُ لِأَنْ يُسْعِدَهُ فِي الشَّدَائِدِ بِمَا أُوتِيَ مِنْ جَاهٍ أَوْ سَطْوَةٍ. وَلِمِثْلِ هَذَا أَوْصَى بَعْضُ الْحُكَمَاءِ بِاتِّخَاذِ الْأَصْدِقَاءِ، فَقَالَ: أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ فَرَّطَ فِي طَلَبِ الْإِخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ».
يَقُولُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
لَعَمْرُكَ مَا مَالُ الفَتَى بِذَخِيرَةٍ
وَلَكِنَّ إِخوَانَ الصَّفَاءِ الذَّخَائِرُ