الشَّجَا يبعثُ الشَّجَا

الشَّجَا يبعثُ الشَّجَا

الشَّجَا يبعثُ الشَّجَا

 العرب اليوم -

الشَّجَا يبعثُ الشَّجَا

بقلم : تركي الدخيل

 

حقاً، إنَّ الشَّجَا يَبعثُ الشَّجَا، كَمَا أَنْشَدَ مُتَمِّمُ بنُ نُويرَةَ، رَاثِياً أخَاه مَالِكاً، فِي قَصِيدَةٍ مِنْ عُيُونِ مَرَاثِي الشّعرِ العَرَبِيّ، مِنهَا قولُهُ:

لقَد لَامَنِي عِندَ القُبُورِ عَلَى البُكَا * رَفِيقِي لِتَذْرَافِ الدُّمُوعِ السَّوَافِكِ

فقَال: أَتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رَأَيتَهُ * لِقَبْرٍ ثَوىَ بَيْنَ اللِّوَى فالدَّكَادِكِفَقُلْتُ لَهُ: إنَّ الشَّجَا يَبْعَثُ الشَّجَا * فدَعْنِي فَهَذَا كُلُّهُ قَبْرُ مَالِكِوقَائِلُ الأبيَاتِ، هوَ: مُتَمِّمُ بنُ نُويرَةَ بنُ جمرةَ بنُ شَداد اليربوعيّ التميمي (ت نحو 30 هـ = نحو 650 م)، أبُو نهشلٍ، صحابيٌ، وشاعرٌ فحلٌ، مِن أشْرافِ قومِهِ، اشْتَهرَ فِي الجَاهِليَّةِ والإسْلَامِ. وَكَانَ ذَمِيماً، وأشْهرُ شِعرِهِ رِثاؤُهُ لِأخِيهِ مَالِكٍ.

وهوَ صَاحِبُ البَيْتِ السَّائِرِ:

فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا * لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعَا

وقَبلَهُ قَولُهُ:

وكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيْمَةَ حِقْبَةً * مِن الدَّهْرِ حَتَّى قِيْلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا

سَكَنَ مُتَمّمٌ المَدِينَةَ، فِي أيَّامِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، وتَزَوَّجَ بهَا امرَأةً، لَمْ تَرْضَ أَخْلَاقَهُ لِشِدَّةِ حُزنِهِ عَلَى أَخِيهِ.

وأبيَاتُ مُتَمّمٍ مِنْ قَصِيدَتِهِ الكَافِيَّةِ، قَالَهَا عندمَا قَدِمَ العِراقَ. فَفِي «أمَالِي القَالِي»، أنَّ الأصْمَعِيَّ قَالَ:

قَدِمَ مُتَمّمُ بنُ نُويرةَ العِراقَ، فأقبلَ لا يَرَى قَبْراً إلَّا بَكَى عَلَيهِ، فَقِيلَ لَه: يَموتُ أخُوكَ بالملا، وتَبكِي أنْتَ عَلَى قَبرٍ بِالعرَاقِ، فَقَالَ أبيَاتَه: لَقَدْ لَامَنِي عِندَ القُبُورِ عَلَى البُكَا... الأبيَات. وَضَمَّنَهَا:

أَمِنْ أجْلِ قبرٍ بالملا أنتَ نائحٌ * عَلَى كُلّ قَبرٍ أو عَلَى كُلِّ هَالِكِ

وَفِي الأبْيَاتِ يَنقلُ الشَّاعرُ لومَ صَاحِبِه لَهُ، إذْ رآهُ يَبكِي عندَ كُلّ قَبرٍ يَراهُ، ذَارِفاً الدٌّمُوعَ، مُستَنكِراً بُكاءَهُ عندَ كُلّ قَبرٍ، مُستَكثِراً سَيَلَانَ دُمُوعِهِ.

لقَد لَامَنِي عِندَ القُبُورِ عَلَى البُكَا * رَفِيقِي لِتَذْرَافِ الدُّمُوعِ السَّوَافِكِ

«تَذْرَاف»: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِن الذَّرَفِ، وذَرْفُ الدُّمُوعِ: سَيَلَانُهَا.

و«السَّوَافِكِ»: جَمْعُ سَافِكٍ، اشْتِقَاقاً مِن سَفكِ الدَّمِ، بمعنَى إرَاقتِهِ وإزْهَاقِهِ، فَشبَّهَ سَيَلَانَ دُمُوعِه بِسَفْكِ الدَّمِ، لِبَيَانِ عِظَمِ شَأنِ تَذْرَافِ دَمْعِهِ، إذْ رَبَطَهُ بِسَفْكِ الدَّمِ.

وَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: هَلْ تَبْكِي عِندَ كُلِّ قَبرٍ تَجِدُهُ...؟

«لِقَبْرٍ ثَوىَ بَيْنَ اللِّوَى فالدَّكَادِكِ»: قولُه «لقَبرُ»: من أجْلِ قبرٍ أخِيكَ الذِي «ثوَى» أي استقرَّ، والمَقْصُودُ: أنَّكَ تَبكِي أمَامَ كُلّ قبرٍ تَراهُ، حُزنًا علَى أخِيكَ، وعبَّرَ عَنْ أخِيهِ بِقبرِهِ، قَائلاً: «لقبرٍ» يَعنِي قبرَ مَالكٍ، و«ثَوَى»: أي وقعَ بين مَوقعَينِ، أولُهُمَا اسمُه: «اللِّوَى»، واسمُ الثَّاني: «الدَّكَادِكِ».

فأجَابَ الشَّاعرُ صَاحبَه على لَومِهِ، قَائِلاً: «إنَّ الشَّجَا يَبْعَثُ الشَّجَا». و«الشَّجَا»: الحُزنُ والهَمُّ والاهْتِيَاجُ للذِّكرَى.

«يَبعَثُ»: أي يَستدعِي ويُهَيِّجُ. يُريدُ: أنَّ الأحزانَ تستجلبُ الأحزانَ، والآلامَ تُهَيِّج الآلامَ، فَكَأنَّ الحُزنَ يَستقوِي بإخوانِه، فيَطلبُهُم ويَستحثُّهمْ على الحُضورِ إليهِ.

(فدَعنِي): فاتركْنِي وشَأنِي، وتَوقَّفْ عن لَومِي، وكُفَّ عنْ تَقرِيعِي.

«فَهَذَا كُلُّهُ قَبْرُ مَالِكِ»: فكمَا أنَّ الحُزنَ يجلبُ الحزنَ، فرؤية أي قبرٍ، تجعلُنِي أرَى قبرَ مالكٍ، ولِذلكَ فَكُلُّ قَبرٍ أجِدُهُ إنَّمَا هو قبرُ أخِي!

وأرسَلَ الشَّاعرُ قولَهُ: «إنَّ الشَّجَا يَبْعَثُ الشَّجَا»، مثلاً سائراً...

سَألَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ مُتمّماً: «ما بلغ من حزنك على أخيك؟

فقَالَ: لَقدْ مَكثتُ سنةً لَا أنَامُ بليلٍ حتَّى أُصْبِحَ، ولَا رأيتُ ناراً رُفِعتْ بِليلٍ إلَّا ظَننتُ نَفسِي سَتَخرُجُ، أذكرُ بهَا نارَ أخِي، كَانَ يأمرُ بالنَّارِ فتُوقدُ حتَّى يُصبحَ مخافةَ أنْ يَبِيتَ ضيفُه قَرِيباً منهُ، فَمَتَى يرَى النَّارَ يَأوِي إلَى الرَّحلِ... فقال عمر: أكرم به».

قالَ ابنُ خِلّكَان: «وبالجُمْلَةِ، فإنَّهُ لم يَنقلْ عَنْ أحَدٍ مِنَ العَرَبِ ولَا غَيرِهم، أنَّه بَكَى علَى مَيّتِهِ، مَا بَكَى مُتَممٌ علَى أخِيهِ مَالكٍ.

وقَالَ عُمرُ لِمُتَممٍ: خَبّرنَا عَنْ أخِيك. فقالَ: يَا أميرَ المؤمنينَ، لَقدْ أُسِرتُ مرةً في حَيّ من أحياءِ العَرَبِ، فَأُخبرَ أخِي، فأقبلَ، فَلَّمَا طَلَعَ علَى الحَاضِرينَ، مَا كَانَ أحدٌ قاعداً إلَّا قَامَ على رِجليهِ، ومَا بَقِيَتْ امرأةٌ إلَّا وتَطلَّعتْ منْ خِلَالِ البُيوتِ، فمَا نَزَلَ عَن جملِهِ، حتَّى لَقُوهُ بِي بِرُمَّتِي (والرُّمَّةُ الحَبلُ البَالِي الّذِي ربط به)، فَحَلَّنِي هُوَ.

فَقَالَ عُمَرُ: إنَّ هذَا لَهُوَ الشَّرَفُ».

arabstoday

GMT 10:51 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

المسلمان

GMT 10:48 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

من موجة ترمب إلى موجة ممداني

GMT 10:47 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

مفاجأة الحرب... تكنولوجيا أوكرانية مقابل أسلحة أميركية

GMT 10:41 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

محاذير هدنة قصيرة في السودان

GMT 10:37 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

المتحف المصري الكبير

GMT 10:36 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

«تسونامي» اسمُه ممداني

GMT 10:33 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

السودان... حكاية الذَّهب والحرب والمعاناة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الشَّجَا يبعثُ الشَّجَا الشَّجَا يبعثُ الشَّجَا



نجمات مصريات يجسّدن سحر الجمال الفرعوني في افتتاح المتحف المصري

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 04:38 2025 السبت ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يتسلم جثة رهينة جديد من قطاع غزة
 العرب اليوم - الجيش الإسرائيلي يتسلم جثة رهينة جديد من قطاع غزة

GMT 01:53 2025 السبت ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

فيديو قديم مع دينا الشربيني يثير ضجة وروبي تعلق بغضب
 العرب اليوم - فيديو قديم مع دينا الشربيني يثير ضجة وروبي تعلق بغضب

GMT 10:41 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

محاذير هدنة قصيرة في السودان

GMT 09:06 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

عمرو دياب يوقف حفله في دبي بسبب نيللي كريم وأحمد السقا

GMT 15:41 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

يامال يرفض المقارنات بميسي ويركز على تحسين أداء الفريق

GMT 16:15 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمم المتحدة تطلق حملة تطعيم واسعة للأطفال في غزة

GMT 10:58 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

مرقص حنا باشا!

GMT 10:59 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

مرة أخرى.. قوة دولية فى غزة !

GMT 11:40 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

.. وفاز ممداني

GMT 22:52 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إقبال تاريخي على المتحف الكبير في مصر مع زيارات غير مسبوقة

GMT 12:01 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

صدقوني إنها «الكاريزما»!

GMT 20:43 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إسرائيل تنفق ملايين الدولارات لتحسين صورتها في أميركا

GMT 11:53 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إحياء الآمال المغاربية

GMT 05:50 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل الوجهات العربية لقضاء خريف معتدل ومليء بالتجارب الساحرة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab