قيودُ الإحسَان

قيودُ الإحسَان

قيودُ الإحسَان

 العرب اليوم -

قيودُ الإحسَان

بقلم : تركي الدخيل

 

تفنَّن الشيخُ أبُو بكر عبد القاهر الجُرجَانِي بنثرِ الفوائدِ والدُّررِ على صَفحاتِ كِتَابِه البَدِيع «دلائل الإعجاز»، ففصَّلَ المُجمَلَ، وشَرحَ المُوجزَ، وكَشفَ الخَفِيَّ، وأظْهَرَ الغَائبَ، وَوَقفَ علَى مَواطنَ بَيَانِيَّةٍ تُجَلّلُ بِجَمَالِهَا اللُّغةَ وتَكسُوهَا حُلَلَ البَهَاءِ، وتَتقلَّدُ بِلَمعَانِهَا جواهرَ القَلائدِ البَهيَّة، فَمِن ذلك قولُه إنَّ أَصْلَ البَديعِ في الكَلَامِ واحِدُ اثنين، فإمَّا حَسَنُ النَّظْمِ وإمَّا حسنُ التَّشبِيهِ والتَّخلِيقِ وصِناعةِ المَعنَى، ثمَّ قَالَ، رَحِمَهُ الله:

وممَّا كثُرَ الحُسْنُ فيهِ بسببِ النظْم، قولُ المتنبّي:

وقَيَّدْتُ نَفسِي فِي ذَرَاكَ مَحَبَّةً ومَنْ وجَدَ الإحسَانَ قَيداً تَقَيَّدَا

وأضَافَ الجُرجَانِيُّ:

«أمَّا الاستعارةُ في أصْلِها مُبْتذلةٌ معروفة، فإنَّك ترَى العاميَّ يقولُ للرَّجلِ، يَكْثُر إحسانُه إليه وَبرُّهُ له، حتى يألَفَه ويختارَ المقامَ عنده: (قد قيَّدني بكثرة إحسانِه إليَّ، وجميلِ فِعْله معِي، حتَى صَارتْ نفسِي لا تُطاوِعُني على الخَروجِ من عِندِه). وإنَّما كانَ ما ترَى من الحُسْن بالمَسْلكِ الذي سلَكَ في النَّظمِ والتَّألِيف».

واخْتارَ المُتنبّي في بيتِه البَارعِ أنْ يَبدأَهُ بالاعترافِ الصَّريحِ، فأقَرَّ طَائعاً وهو واسِعُ الاختيَارِ، مُتَمكّنُ القَرارِ، بأَنَّه قيَّدَ نفسَهُ في ذُرَى مَمْدُوحِهِ المُحسنِ محبةً.

وبدأَ البيتُ بواوِ العَطفِ في الابتداء، وكَأنَّ تَقيِيدَه نفسَه في ذُرَى المُحسِنِ ليسَ أمراً طَارئاً، بَلْ هو أمرٌ له مُقدّماتُه ومُمَهداتُه، الّتِي كأَنَّه عَبَّر عَنهَا بواوِ العَطْفِ ابتداءً. كَمَا أنَّ استعمالَه الواوَ في البِدايةِ، يُؤكّدُ تَواضعَهُ، وبُعدَه عَنِ التَّكبُّرِ والزَّهوِ بِتَقييدِه نفسَه فِي ذُرَى المُحسِنِ.

وقولُه: «في ذُراك»: يعنِي تحتَ ظِلالِك، وفي فَيءِ سَمائِكَ.

وبعدَ بَيانِ الاعترافِ الشَّخصي يَنتقلُ المُتنبّي في العَجزِ للحَديثِ عن الأفكارِ العَامَّةِ التِي تنطبقُ على النَاسِ كُلِّهَا، فيقولُ:

ومَنْ وَجدَ الإحسانَ قيداً تقيَّدَا

يُقدّمُ أبو الطَّيِّبِ في عَجُزِ بيتِه مُقدمةً يَبنِي عليهَا نتيجةً، والمُقدّمةُ هي أداةُ الشَّرطِ «منْ» والشَّرطُ فِي قولِه: «ومَنْ وجدَ الإحسانَ قيداً»، والنتيجةُ، قولُه «تقيدَا»، وهو جَوابٌ للشَّرطِ، أي أنَّ مَنْ يجدُ أنَّ الإحسانَ إليه، يُقيّدُه بفضلِ المُحسنِ، رَضِيَ وسَلَّم وقَبِلَ بِهذَا القَيدِ، وإنْ كَانَ القَيدُ في أصلِه ممَّا يَأنفُه الحُرُّ، ويَمُجُّهُ الشَّريفُ، لكنَّ فَضلَ الإحسانِ يَجعلُ الأحرارَ والأشْرافَ بمَا يدينونَ بهِ من دَيْن الإحسانِ، يَقبلونَ بمَا كانُوا يرفضونَ، ويُقرّونَ بمَا كانُوا يَستنكرونَ.

ومن عجائبِ اللغة، أنَّ الأصفادَ: هي القيودُ، واحدُها: صفدٌ، وصفد، ويُقال: صفدته صفداً؛ أي: قيَّدتُه، والاسمُ الصّفد، وأصفدتُه إصفاداً: أعطيتُه. وقيل: صفدتُه، وأصفدتُه جاريانِ في القيدِ والإعطاء جميعاً، فالصّفدُ: العطاءُ؛ لأنَّه يُقَيِّدُ ويُوثِقُ، قالَ أبو الطّيّب: وقيَّدتُ نفسِي في ذُراك محبّةً

ومَن وجدَ الإحسانَ قيداً تقيّدَا

arabstoday

GMT 15:45 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

دوائر دوائر

GMT 15:44 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

تصدوا للتضليل

GMT 15:43 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

أهواءُ إسرائيلَ وأهوالها

GMT 15:43 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

وحدات وانفصالات ومراجعات في المشرق!

GMT 15:42 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

من «غلاف غزة» إلى «غلاف الإقليم»

GMT 15:41 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

مطلب التدخل الدولي بوقف الحرب

GMT 15:41 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

العودة إلى نقطة الصفر!

GMT 15:40 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

العالم... وحقبة استعمارية للأراضي القطبية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قيودُ الإحسَان قيودُ الإحسَان



نانسي عجرم تكسر قواعد الموضة في "نانسي 11" بإطلالات جريئة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 06:39 2025 الخميس ,24 تموز / يوليو

مصرع 10 رجال إطفاء في احتواء حريق بتركيا
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab