بقلم : سليمان جودة
صرنا نختزل الاحتفال بمولد الرسول الكريم فى شكليات لا علاقة لها بما عاش صاحب الذكرى يدعونا إليه من قيم، ومن مبادئ، لا يتقدم بغيرها الإنسان. وفى حياة محمد عليه الصلاة والسلام مواقف كثيرة نستطيع أن نفهم منها أنه كان يؤسس لنا ما يجعلنا جديرين بأن نحمل رسالته من بعده بين الأمم.
كان إذا أراد شيئًا ضرب المثل العملى عليه لعلنا ندرك المعنى الأبعد لما يريده منا. ومما نقرأ فى سيرته العطرة أنه كان يجلس ذات صباح فى مسجده، فدخل رجل من المسلمين وقام يصلى بينما الرسول الكريم يراقبه من بعيد، فلما انتهى الرجل من الصلاة ناداه النبى ودعاه إلى أن يعود ليصلى.
استغرب الرجل وقد فرغ من الصلاة بالكاد، ولم يفهم كيف يذهب ليعيد صلاته وقد أنهاها قبل قليل، وراح يتطلع حوله مستطلعًا لعل أحدًا من الصحابة يسعفه، ولكن النبى سارع يحسم الأمر ويقول موجهًا كلامه إليه بما معناه أن ما قام به ليس صلاة بالمعنى المفترض للصلاة، وأن عليه أن يصلى من جديد لأن للصلاة شروطًا لا تصح إلا بها.
ولم يكن أمام الرجل إلا أن يطيع وأن يدخل فى الصلاة مرةً أخرى، ولكنه ما كاد يتم صلاته الثانية ويخرج منها حتى دعاه الرسول إلى أن يعود فيصلى للمرة الثالثة!.. وكان المعنى أن الرجل قام وقعد وركع وسجد، ولكنه فى النهاية كان يقوم ويقعد ولا يصلي! وقد بقى النبى الكريم يدعوه إلى أن يعود إلى صلاته كلما انتهى منها، وكان الرجل يمتثل ولا يعترض، إلى أن جاء فى المرة الأخيرة فقال: علمنى يا رسول الله. وقد قام الرسول يعلمه ويلفت انتباهه إلى أن الصلاة ليست قيامًا وقعودًا، ولا هى مجرد حركات يؤديها المسلم فيكون قد صلى.. لا.. وإنما الدخول فى الصلاة له أصوله، كما أن السجود والركوع والقيام والجلوس كلها لها قواعدها التى لا تصح فى النهاية إلا بها.
فما المعنى؟.. المعنى الذى أراده النبى الكريم من وراء المشهد كله أن «الإتقان» هو الأساس فى كل شىء يكون علينا أن نفعله، وأن الصلاة لا تتم بغير إتقانها، وأن ما نؤديه من عمل فى حياتنا جميعها لا يكتمل بغير إتقان، وأن ما بين أداء العمل وبين إتقانه مسافة قصيرة، ولكن هذه المسافة القصيرة هى على وجه التحديد ما يميز العمل عن اللاعمل.
وهذا بالضبط ما قصده الأستاذ الإمام محمد عبده، عندما زار باريس عام ١٨٨١ فعاد يقول: وجدت هناك إسلامًا بغير مسلمين، ووجدت هنا مسلمين بغير إسلام.