لم تكن مخلوقًا أرضيًا عاش مثل كل البشر، ولم يكن صوتها شيئًا عاديًا مثل آلاف المطربين، لكنها كانت لحظة إبداع إلهية هبطت على الأرض، وانطلق صوتها يهز أرجاء الكون ويحيى الناس بعد طول موات.. أعترف من البداية بأننى لن أكون محايدًا أو موضوعيًا وأنا أتحدث عن صوت ليلى مراد، لأنها جاءت من سماء بعيدة وأطربتنا ثم رحلت.
ـــــ كان حبى لصوت ليلى مراد نوعًا من العشق الذى يقتحم الوجدان ويهز المشاعر، كان صوتًا إلهيًا أرسله الله فى صورة بشرٍ سويّ، كانت نسمةً عانقت القلوب وسافرت بها إلى أبعد شواطئ الجمال والمتعة.. لم ألتقِ بها ولم أعرفها، وكنا نسكن فى شارع واحد يفصل بيننا بضعة أمتار، وكانت تعيش خريف أيامها، واختفت عن العيون وسكنت قلوب الملايين.. كانت ليلى مراد امرأة جميلة شكلًا، فيها ضياء نساء مصر فى عصرها الذهبى، وكانت نجمة بكل مقاييس الحضور والتوهج، وكانت أغلى فنانة ظهرت على الشاشة فى عصرها.. أحبت كثيرًا، وأحبها عشرات الرجال، وتزوجت وأنجبت، وبقيت سنوات تحاصرها الأضواء، ثم انسحبت فى صمت، والناس خلفها يتساءلون: يا حبيب الروح فين أيامك؟
ـــــ كثيرًا ما تحدثت عنها مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، وكان ظنى دائمًا أنه أحبها، وحين سألته لم ينكر.. وعرفت منه حكاية غريبة؛ بعد أن تزوج السيدة نهلة القدسى وفى شهر العسل ، جاءت مديرة البيت
وقالت: على الباب رجل يحمل صناديق كثيرة، وفتحت السيدة نهلة الصناديق ففوجئت بأنها ملابس للرجال، وسألت الرجل من أرسل هذه الملابس؟
فقال: الفنانة ليلى مراد.
فألقتها السيدة نهلة فى الشارع، إذ كان عبد الوهاب لا يرتدى ملابس مستعملة، وكانت هذه المرة الأخيرة التى كان مصيرها الشارع..
ـــــ وُلدت ليلى مراد باسم «ليليان زكى إبراهيم مراد» فى حى الظاهر بالقاهرة، لأسرة يهودية من أصول سورية ومغربية.. كان والدها زكى مراد مغنيا وموسيقيا معروفا، بينما كانت والدتها جميلة ابنة رجل أعمال كان ينظم الحفلات الموسيقية.. نشأت ليلى فى بيئة فنية، وكان أول ظهور فنى لها وهى فى التاسعة من عمرها فى «صالات بديعة» الشهيرة وفى سن صغيرة تقدمت للإذاعة كمطربة ونجحت، وكانت انطلاقتها الحقيقية فى السينما بوقوفها أمام الموسيقار محمد عبد الوهاب فى فيلم «يحيا الحب». ثم توالت أفلامها التى بلغت نحو 27 فيلمًا سينمائيًا، والتى جمعت فيها بين الغناء والتمثيل، وأشهرها: «ليلى بنت الفقراء» و«غزل البنات» الذى يعد من كلاسيكيات السينما المصرية و«شاطئ الغرام» و«قلبى دليلى»، «عنبر»، «سيدة القطار»، «الحبيب المجهول» وهو آخر أفلامها.. غنت ليلى مراد عشرات الأغانى، التى لا تزال تطربنا حتى اليوم، «يا مسافر»، «عينى بترف»، «الدنيا غنوة» ونشيد «بالنظام والعمل والاتحاد» الذى يمجد ثورة الضباط الأحرار وتعاونت مع كبار الملحنين مثل محمد عبد الوهاب، ورياض السنباطى، ومحمد فوزى، وشقيقها منير مراد.. فى أفلام ليلى مراد كانت هناك أشياء جديدة على السينما المصرية حينذاك ، وهى الأغانى بكل ما فيها من المتعة والجمال.. ولنا أن نستعيد أدوارها مع الريحانى فى غزل البنات وظهور خاص لمحمد عبد الوهاب بأغنيته عاشق الروح والتى لخصت قصة الفيلم .. وشاطئ الغرام ومدينة مطروح والتى بها شاطئ يحمل اسم الفيلم، وأنور وجدى ويوسف وهبى وعشرات من نجوم العصر الذهبى للسينما المصرية..
ـــــ تزوجت ليلى مراد أكثر من مرة، وكان أنور وجدى أصعب أزواجها لأسباب كثيرة بين المال والأزمات وكان زواجا متقطعا مليئا بالمشكلات، رغم أنهما أنتجا معا أفلاما ناجحة.. ثم وجيه أباظة وكان مسئولا حكوميا ، أنجبت منه وكانت علاقتها بوجيه أباظة أحد رجال نظام عبد الناصر سرية - وتسببت العلاقة فى إنهاء مسيرتها الفنية ثم فطين عبد الوهاب الذى أنجبت منه ابنها زكى، وكان هذا زواجها المستقر الوحيد..
ــــــ فى منعطف مهم من حياتها، اعتنقت ليلى مراد الإسلام ، بعد زواجها من الممثل أنور وجدى، وجاء هذا القرار فى توقيت بالغ الحساسية، حيث صادف فترة تصاعد التوترات العربية الإسرائيلية والحرب فى فلسطين واجهت ليلى مراد اتهامات بالتعاطف مع إسرائيل فى أوائل الخمسينيات، حيث انتشرت شائعات بأنها زارت إسرائيل وتبرعت بمال لجيشها، مما دفع بعض الدول العربية لمقاطعتها فنيا. لكن الحكومة المصرية -وتحديدا نظام الضباط الأحرار- دافعت عنها وبرأتها من هذه التهم بعد تحقيق أثبت عدم صحتها.
ـــــ واعتزلت ليلى مراد وهى فى قمة مجدها، وعاشت وحيدة فى بيتها فى جاردن سيتى، وكثيرًا ما كنت أسأل عنها كاتبنا الكبير مصطفى أمين، فقد كان دائم السؤال عنها، وكثيرًا ما وقف بجانبها فى أزمات مالية حادة، فقد كانت تنفق بلا حساب رغم أن عشرات الأيادى كانت تمتد إليها.. حتى إن مصطفى أمين قدم لها نصف مليون جنيه هدية من ثرى عربى، أنفقتها فى أيام..عاشت ليلى مراد خريف أيامها وحيدة بين الفن والذكريات، وبقى منها صوتها الساحر وأغانيها الجميلة وأفلامها التى زينت تاريخ السينما المصرية..
ـــــ أما أنا، فقد عشت سنوات من عمرى أسافر فى هذا الصوت العبقرى، وما بين الحب جميل ويا مسافر وناسى هواك ومليش أمل فى الدنيا دى وحبيب الروح تبقى ليلى مراد الصوت الذى هبط من السماء وحلق بالناس فى عالم من الجمال والحب والمتعة.. وما زال صوتها يتردد فى كل مكان، لأنه صوت من السماء زار الأرض يومًا وترك للناس إبداعًا جميلًا.
ـــــ فى حديقة الغناء يتوقف التاريخ عند كوكب الشرق أم كلثوم، وجارة الوادى فيروز، وصوت السماء ليلى مراد.. لا أحد يشبه هذه الأصوات، لا أحد فيه شموخ أم كلثوم، ورقة فيروز، وعذوبة ليلى مراد.. هذه الأصوات غير قابلة للتكرار، إنها نسخ وحيدة وفريدة، ولهذا سكنت القلوب وسافرت بالملايين فى عالم من المتعة والجمال..
ـــــ لم تكن ليلى مراد سعيدة فى حياتها الخاصة، وكانت مطمعًا أمام الأموال التى حصلت عليها فى عشرات الأفلام.. وكان من الممكن أن تبقى سنوات تستمتع بنجوميتها، ولكن لأسباب لا يعرفها أحد قررت أن تنسحب فى هدوء وتترك الملايين من عشاق فنها وتعيش فى الظل مكتفية بما قدمت، وهو جميل وكثير.
ورغم غيابها، بقيت أغانيها وأفلامها من أجمل وأرق ما شهده الفن المصرى فى عصره الذهبى.
..ويبقى الشعر
مَا زالَ يرْكضُ بَيْنَ أعْمَاقى
جَوادٌ جَامحٌ..
سَجنوهُ يوما فى دُروبِ المسْتحيلْ..
مَا بَيْنَ أحْلام الليَالى
كانَ يَجْرى كلَّ يَوْم ألفَ مِيلْ
وتكسّرتْ أقدامُهُ الخضراءُ
وانشَطرتْ خُيوط ُالصُّبح فى عَيْنيهِ
وَاختنق الصَّهيلْ
مِنْ يومها وقوافِلُ الأحْزان تـَرتـعُ فى رُبُوعى
والدّماءُ الخضْرُ فى صَمتٍ تسيلْ
من يَومهَا.. والضَّوءُ يَرْحلُ عنْ عُيونى
والنـّخيلُ الشـّامخُ المقهُورُ
فِى فـَزع ٍ يئنٌ.. ولا يَمِيلْ..
مَا زالتِ الأشـْبَاحُ تسْكرُ مِنْ دمَاءِ النيلْ
فلتخبرينـِى.. كيف يأتى الصُّبْحُ
والزمَنُ الجمِيلْ..
فأنا وَأنت سَحَابتـَان تـُحلقـَان
على ثـَرى وطن ٍبخيلْ..
من أينَ يأتِى الحُلمُ والأشْباحُ تـَرتعُ حَوْلنا
وتغـُوصُ فى دَمِنا
سِهَامُ البطـْش.. والقـَهْرُ الطـَّويلْ
مِنْ أينَ يأتى الصبْحُ
واللــَّيْـلُ الكئيبُ عَـلى نزَيف عُيُوننـَا
يَهْوَى التـَسَكـُّعَ.. والرَّحيلْ
من أينَ يَأتى الفجْرُ
والجلادُ فى غـُرف الصّغـَار
يُعلمُ الأطفالَ مَنْ سَيكونُ
مِنـْهم قاتلٌ ومَن ِالقتيلْ ..
لا تسْألينى الآنَ عن زَمن ٍجميلْ
أنا لا أحبُّ الحُزنَ
لكن كلُّ أحزانِى جراحٌ
أرهقتْ قلبى العَليلْ..
ما بيْنَ حُلم ٍخاننى.. ضاعتْ أغَانِى الحُبّ..
وانطفأتْ شموسُ العُمر.. وانتحَرَ الأصِيلْ..
لكنه قدَرى بأن أحيا عَلى الأطـْلالْ
أرسمُ فى سَوادِ الليل
قِنديلا.. وفجرًا شاحبًا
يتوكـَّآن على بقايَا العُمر
والجسدِ الهزيلْ
إنى أحبُّك
كلما تاهت خـُيوط ُالضَّوء عَنْ عَيْنى
أرى فيكِ الدَّليلْ
إنى أحبـُّك..
لا تكونِى ليلة ًعذراءَ
نامت فى ضُـلـُوعى..
ثم شرَّدَها الرَّحِيلْ..
إنى أحبـُّك...
لا تكـُونى مثلَ كلِّ النـَّاس
عهدًا زائفـًا
أو نجْمة ًضلتْ وتبحثُ عنْ سبيلْ
داويتُ أحْزان القلوبِ
غرسْتُ فى وجْهِ الصَّحارى
ألفَ بسْتان ٍظليلْ
والآن جئتك خائفـًا
نفسُ الوُجوه
تعُودُ مثلَ السّوس
تنخرُ فى عِظام النيلْ..
نفـْسُ الوُجوُه..
تـُطلُّ من خلف النـَّوافذِ
تنعقُ الغرْبانُ.. يَرتفعُ العَويلْ..
نفسُ الوجُوه
على الموائِد تأكلُ الجَسدَ النـَّحيلْ..
نـَفسُ الوجوهِ
تـُطلُّ فوق الشاشَةِ السَّوداءِ
تنشرُ سُمَّها..
ودِماؤنـَا فى نشْوة الأفـْراح
مِنْ فمهَا تسيلْ..
نفسُ الوجوهِ..
الآن تقتحِمُ العَيُونَ..
كأنها الكابُوس فى حلم ٍثقيلْ
نفسُ الوجوه..
تعُودُ كالجُرذان تـَجْرى خلفنـَا..
وأمَامنا الجلادُ.. والليلُ الطويلْ..
لا تسْألينى الآن عَنْ حُلم جَميلْ
أنا لا ألومُ الصُّبحَ
إن ولَّى وودّعَ أرضنـَا
فالصبحُ لا يَرضى هَوَان َالعَيْش
فى وَطن ٍذليلْ
أنا لا ألومُ النارَ إن هَدأتْ
وصَارتْ نخوة عرجاء
فى جَسَد عليلْ..
أنا لا ألـُوًمُ النهرَ
إن جفتْ شواطئـُه
وأجدَبَ زرْعُه..
وتكسَّرتْ كالضَّوء فى عَيْنيهِ
أعناقُ النخيلْ..
مادَامَتِ الأشْباحُ تسْكرُ
منْ دمَاء النيلْ..
لا تسَألينى الآنَ..
عن زمن ٍ جميلْ