لم يكن شيئا عابرا، ولم تكن موهبته مثل كل المواهب، ولكنه أخذ مكانا فريدا فى قائمة الإبداع العربي، واستطاع أن يقيم مملكة تحمل اسمه وبصماته وتاريخه، وأن يترك موسوعة خالدة من الفن الجميل.. لم يكن رياض السنباطى لحنا حرّك مشاعرنا وحرّك خيالنا، ولكنه كان أيقونة سرت فى دماء الأجيال جيلاً بعد جيل.. من أجمل حظوظ الدنيا أن تجمعك الأقدار مع حديقة من الإبداع، وكان السنباطى أجمل حدائق الفن فى حياتنا.. ولا أدرى كيف يُصنَّف السنباطي، وقد كان كتلة حيّة من الإبداع الراقى والنغم الأصيل..
ــــ عرفتُ السنباطى ما يقرب من عشرين عاما، كنت أزوره فى بيته أمام نادى الشمس فى مصر الجديدة، وكانت بيننا قصص وحكايات.. كان يهرب من الزحام، ولا يحب صخب الناس وضجيج الشوارع، كان يعيش مع عوده، يصافحه كلما زاره خاطر أو عبثت بقلبه الشجون والأحلام. كان يعتز بنفسه كثيراً، وكان يحمل كبرياء العقّاد ترفّعا وزهدا، ولم يختلط بالناس، وبقى عاشقا لفنه وإبداعه وحريته.. كان السنباطى تركيبة كونية وإنسانية غاية فى الصفاء والنقاء والإبداع.
ــــــ لا أدرى عن أى الجوانب أتحدث فى رحلة السنباطى: هل هو الإحساس؟ أم هى العبقرية؟ أم هو الإخلاص؟ أم هو القدر الذى جمعه مع رامى وكوكب الشرق والزمن الجميل؟ إن السنباطى كل هؤلاء.. جمع العبقرية مع الصدق والإخلاص، وسافر إلى أبعد مدى فى وجدان الملايين، ورحل وهو مازال يغنى ويطربنا.. فنان عظيم بكل المقاييس، فنان احترم نفسه منذ البداية، وترفّع عن كل المغريات لكى يظل وفيًّا لفنه.. فنان جاء فى زمانه، ونبت فى أرضه.. ولذلك كان عطاؤه عظيمًا، وسخيًّا، ومؤثِّرًا. جاء السنباطى يحمل موهبة ضخمة وحسًّا فنيًّا عميقًا مرهفًا وسلوكًا فى الحياة جعله راهب فن، فأخلص لفنه.. وتعلمنا منه كيف يفرض الفنان وصايته على قلوب الناس بموهبته.. وصدقه.. والسنباطى رجل وهب حياته للفن، فهو يعيش لكى يُبدع. فهو يذكّرنا دائمًا بالأصالة.. تلك التى تعنى أن يكون للشجرة جذور تمتد فى أعماق الأرض، وكلما امتدت أثمرت وزاد عطاؤها.. إن شجرة السنباطى فى حديقة الموسيقى العربية من أحلى الأشجار ثمارًا، وأسخاها ظلالًا..
ـــــــ تفتحت أذنه على أبيه وهو يعزف العود ويترنم بالأغانى القديمة والتواشيح الدينية، فتعلم منه تراث الموسيقى العربية واستمع إلى أسطوانات مطربى ذلك الزمان: أبوالعلا محمد وسلامة حجازى، حمله القطار ذات ليلة من مدينة المنصورة، لكى يُلقى به فى زحام القاهرة، وهو لا يحمل شيئًا غير عوده، لكى يبدأ السنباطى رحلته الطويلة، التى استغرقت أكثر من نصف قرن مع النغم، وتربّع بجدارة على قمة الموسيقى العربية..
لقد مهّد له الشيخ سيد درويش الطريق، وأزاح من أمامه أحجارًا كثيرة، والحقيقة أن رياض السنباطى أكمل رسالة بدأها سيد درويش. فإذا كان سيد درويش قد أنقذ الموسيقى الشرقية من مظاهر هبوطها وتخلّفها وإسفافها، فإن السنباطى أعطاها مذاقًا جديدًا، عذبًا ورفيعًا، فأصبح له أسلوبه المميز.. واستطاع أن يقف بمدرسته شامخًا بجوار مدرسة سيد درويش ومدرسة عبدالوهاب.. وكان من حسن حظ السنباطى أن جمعته الأقدار مع اثنين من عمالقة الفن: أم كلثوم، وأحمد رامى، واجتمع الثلاثة، ظاهرة فنية لا تتكرر كثيرًا فى تاريخ الشعوب أن تجتمع هذه المواهب فى زمن واحد، وتلتقى مع بعضها لتصنع شيئًا عظيمًا. وشهدت بهم حياتنا الفنية أرقى وأعذب مراحل تطورها، فما أسعد تلك الأجيال التى تربى وجدانها على هذه القمم الثلاث، التى تمثلت فى صوت أم كلثوم، وألحان السنباطى، وكلمات رامى.
ـــــــ وقد تفرد السنباطى فى تلحين القصائد، وكان مبدعها الأول، فلحن لأم كلثوم 107 الحان ومن أشهرها رباعيات الخيام، ثورة الشك، وأغار من نسمة الجنوب، وأراك عصى الدمع .. حكى لى قصته مع «الأطلال»، فقال: «أجريت عدة بروفات مع أم كلثوم لقصيدة الأطلال، وفى كل مرة كانت تؤجل غناءها.. وفوجئت بها تغنى (أنت عمرى)، وقلت: هل بعد أن غنت (هات عينيك تسرح فى دنيتهم عنيه) يمكن أن تغنى (الأطلال)؟.. وفى إحدى حفلاتها قررت أن تغنى (الأطلال)، وكنا قد أجرينا لها أكثر من 24 بروفة فى فترات مختلفة.. ونجحت الأطلال نجاحًا مذهلًا».
ـــــــ وكلما كنت أرى رياض السنباطى أشعر بشىء من أحزانه لما وصل إليه حال الفن فى بلادنا.. إسفاف الكلمات، وسطحية الموسيقى، يُضاف إليهما رصيد ضخم من الأصوات المفزعة.
والرجل غيور على الفن، ويخاف على ذلك الصرح الشامخ الذى شارك فى بنائه مع أصدقاء رحلته: أم كلثوم، وعبد الوهاب، وزكريا أحمد، والقصبجى، وغيرهم. ولكن السنباطى كان لا يفقد الأمل، ويؤمن بأن حديقة الغناء فى مصر سوف تُخرج من بين ظلالها أصواتا جديدة تملأ حياتنا بأغاريدها.. وهو فنان كان له تأثير ضخم على وجدان أجيال متعاقبة على الساحة العربية. فلو حاولنا أن نذكر أبرز الأعمال الغنائية الضخمة فى نصف القرن الأخير، لوصل إلى القمة وظل متربّعًا عليها حتى آخر أيامه، ولم يتفق الناس على شيء مثلما اتفقوا على صوت أم كلثوم وأنغام السنباطي..
ـــــــ كان شامخًا فى كل شىء، فى ترفعه وزهده وقناعاته. فقبل أن يرحل، قررت الدولة فى ذلك الوقت أن تكرمه فى عيد الفن، وكان سعيدًا بهذه المبادرة، ولكن حدث ما أفسد كل شىء.. فقد اتصل به د.رشاد رشدى وأخبره بحفل التكريم وطلب منه أن يغنى بناء على رغبة الرئيس السادات ــ أغنية «إله الكون أنا حيران»، لأنه كان يغنيها فى سجنه، فانفعل السنباطى وقال: «هل من أجل التكريم أغنى فى هذا العمر وأنا رجل مريض؟»، ورفض السنباطى الغناء، وسحبت الدولة التكريم.. حين اشتد به المرض، وكان يعانى الربو، اتصل به مكتب حاكم عربى وأخبره بأن الحاكم أصدر قرارًا بعلاجه فى أحد المستشفيات المتخصصة فى سويسرا، وبدأ السنباطى يُعد أوراق السفر وترتيبات الرحلة، وطلب من مدير مكتبه أن يتحدث إلى الحاكم لكى يشكره على هذه المبادرة الطيبة، ولكن مدير المكتب قال: «هذا أمر صعب لأنه مشغول»، فما كان من السنباطى إلا أن رفض الدعوة والسفر والرحلة كلها.. ومات السنباطى ولم يذهب للعلاج فى سويسرا.
ـــــــ وفى أواخر رحلته كان يقول: «لم أعد أتحمّل موجات الإسفاف التى تطارد الآن حياتنا الفنية». وكنت أرى السنباطى بعد رحيل أم كلثوم وكأنه عصفور فقد رفيقه، ولم يعد قادرًا على الغناء. كان يشعر بخسارة كبيرة بعد رحيلها.. كنت أجلس معه بعد رحيل شاعرنا أحمد رامي، وقال يومها: «لقد اقترب الدور مني.. ماتت أم كلثوم.. ومات رامي.. وبقيت أنا أنتظر». وكان للسنباطى عالمه الخاص مثل كل فنان قدير، فلم يكن من السهل عليه أن يأنس للناس رغم بساطته.وكان يتمتع بشموخ عجيب تغلّفه وداعة عرفها من اقترب منه..
كان يحب الحياة فى الظل لكى يُلقى بفنه فقط إلى مواقع الأضواء، وسوف تمضى سنوات وسنوات، وألحان السنباطى تتردد فى مسامعنا، وتنساب فى مياه نيلنا، ويتغنّى بها عشّاق الفن الأصيل فى كل مكان.. ولهذا، كان السنباطى نغمًا خالدًا لن يصمت.. إذا تذكّرنا الأصالة فهو أبرز روادها وأخلص الناس لها. وإذا تذكّرنا العطاء فقد كان السنباطى موهبة قادرة قدمت الكثير.. وإذا تذكّرنا العذوبة والجمال، فألحان السنباطى أسعدتنا عمرًا طويلًا.
◙ ◙ ◙
..ويبقى الشعر
لاتنتظر أحدًا..
فلن يَأتى أحَدْ
لم يَبقَ شَىءٌ غيرَ صَوتِ الريّح ِ
والسَّيفِ الكـَسيح..
ووَجْهِ حُلم ٍ يَرتعد
الفارسُ المخدوع ألقى تاجَهُ
وَسْط الرّياح ْ.. وعَادَ يَجْرى خائِفًا
وَاليَأسُ بالقلـْبِ الكـَسِـير قـَد اسْـتبَدْ
صُورٌ عَـلـَى الجْدران ترصُدُها العُيونُ
وكلـَّما اقـْتربَتْ.. تـُطلُّ وتـَبتـَعِدْ
قـَدْ عادَ يَذكرُ وجهَهُ
والعَزمُ فى عَيْنيهِ
والأمجادُ بَيْنَ يديـِه
والتـَّاريخُ فى صَمتٍ سَجدْ
***
الفـَارسُ المخْدوعُ فى ليل الشـّـتاءِ
يَدورُ مذعُورًا..
يفتـّشُ عَنْ سَندْ
يَسْرى الصَّقيعُ عَلـَى وُجُوهِ النـَّاس ِ
تنـُبتُ وحشة فى القـَلـْبِ..
يفزعُ كـُلُّ شَىء فى الجسَدْ
فِى ليْلةٍ شتـْويَّةِ الأشبَاح
عَاد الفَارسُ المخْدوعُ منكسِرًا
يَجرُّ جَوادَهُ
جُثــَثُ اللـَّيـالِى حَوْلـَه
غيَر النـَّدامةِ مَا حَصدْ
تَركَ الخيـُولَ تفـِرٌّ مِنْ فرسَانِها
كانت خـُيولكَ ذاتَ يَوم ٍ..
كالنـُّجوم بـِلا عَددْ
أسرَفتَ فِى البَيع الرَّخيص ِ
وَجـِئتَ تـَرجُو مِنْ أعاديـِكَ المَدَدْ!
بـَاعُوك فى هَذا المزَاد..
فكيفَ تسْمعُ زَيفَ جَلادٍ وَعَدْ؟
***
الفـَارسُ المخدوع ُ ألقـَى رأسَهُ
فوقَ الجدَار
وكلُّ شَىءٍ فِى جَوانِحهِ هَمدْ
هَربتْ خيولكَ من صَقيع اليَـأس ِ
فالشـُّطآنُ حاصَرَها الزَّبدْ
لا شىءَ للفِرْسان ِ يَبْقـَى
حِينَ تنكـَسِرُ الخُيولُ
سِوَى البَريق ِالمرتـَعِدْ
وعَـلى امْـتدادِ الأفـْق تـَنتـَحبُ المآذنُ..
والكـَنائسُ.. والقِبَابُ..
وصَوْتُ مَسجُونِ سَجدْ
هَذِى الخُيولُ تـَرهَّـلتْ
ومواكبُ الفرْسان ينقـُصُهَا
مَعَ الطـُّهر ِ.. الجَلـَدْ
هَذا الزمَانُ تعفـَّنتْ فيهِ الرُّءوسُ
وكـُلُّ شَىءٍ فى ضَمائِرها فسَدْ
إنْ كانَ هَذا العَصْرُ
قدْ قطعَ الأيادِىَ والرّقابَ
فكيفَ تأمنُ سُخط برْكان خَمَدْ
***
هَذِى الخُيولُ العَاجـِزَة ْ
لنْ تـَستـَطيعَ الرَّكضَ..
فى قمَم الجبَال..
وَكـَلُّ ما فِى الأفـْق أمطارٌ.. ورَعْدْ
مَاذا سَيْبقى للجَوادِ إذا تـَهاوَى
غيرَ أنْ يرْتاحَ فى كفـَن.. ولـَحْدْ؟!
الفارسُ المكـْسورُ ينظرُ
والسَّماءُ تطلُّ فى غـَضَبٍ
وَبينَ دمُوعِها..
تخـْبُو مَواثيقٌ.. وعَهْدْ
خَدعوُكَ فى هَذا المزادِ
ظننتَ أنَّ السُّمَّ شـَهدْ
قتلوكَ فى الأمس القريبِ
فكيْفَ تسألُ قاتليكَ
بأنْ تموتَ بحبْـل وُدْ؟!
قدْ كـُنتَ يَوماً..
لا ترى للحُـلم ِ حدا أىَّ حَدْ
والآن حَاصرَكَ المرَابـِى
فى المزَاد بألفِ وَغدْ
هَذا المرَابى..
سَوْفَ يُخلفُ كلَّ يوم ألفَ وَعدْ.
لا تحزَنِى أمَّ المدَائِن .. لا تـَخـَافِى
سَوْفَ يُولدُ مِن رمَاد اليوْم غـَدْ
فغدًا ستنبتُ بينَ أطـْلال الحُطامِ..
ظلالَ بُستـُانٍ .. ووَردْ.
وغدًا سيخْرجُ من لظى هَذا الرُّكام ِ
صَهيلُ فرسَان.. ومَجْدْ
***
الفارسُ المكسُورُ
ينتظرُ النـّهاية فى جَـلدْ
عَينـَان زَائغتـَان..
وَجْهٌ شَاحِبٌ..
وبَريقُ حُلم ٍ فى مآقِيهِ جَمَدْ.
لا تنتظِرْ أحَداً..
فلنْ يَأتِى أحد
فالآنَ حاصَرَكَ الجلِيدُ..
إلى الأبدْ