فى أحيان كثيرة يقف الكاتب والمفكر حائرًا فى اختيار مواقفه وإلى أى القوى ينحاز، وهل يكتفى بسلاح الكلمة أم يلجأ إلى صفوف المقاومة حتى لو دفع الثمن حين لا تجدى الكلمة.. وفى تاريخنا الحديث نموذج فذ لكاتب اختار الاثنين معًا؛ كان مقاتلًا بالكلمة ومقاومًا بالموقف ودفع فى الحالتين الثمن .. أتحدث عن الدكتور عبد الوهاب المسيرى فارس الكلمة وصاحب الموقف.
ــــ كان د.المسيرى نموذجًا فريدًا للباحث الجاد، فهو ليس مجرد كاتب، بل هو مشروع فكرى متكامل وأحد أبرز مفكرى العرب فى القرن العشرين .. كان يتنقل ببراعة بين قضايا الفكر والسياسة ويختار أصعب التحديات رفضًا وجسارة، ويقف بصلابة أمام الواقع المشبوه، رافضًا رغم كل الصعاب والتحديات.. كان د.المسيرى واحدًا من أبرز كتابنا فى مقاومة الغزو الصهيونى، وسافر فى أعماق جذور الدولة الصهيونية وما هو الفرق بين الصهيونية واليهودية، وتنقل بين صفحات التاريخ القديم والمعاصر لكى يصل فى موسوعته الشهيرة إلى حقيقة الكيان الصهيونى تاريخًا وحاضرًا ومستقبلًا، ويصل إلى أن إسرائيل مشروع صهيونى إلى زوال.. وتميز بقدرته الفائقة على تفكيك الظواهر الغربية الحديثة (كالصهيونية والعلمانية) وإعادة تركيبها بمنهج تحليلى فريد ينفذ إلى الجذور الفلسفية والمعرفية..
ـــــ لم يكن فكر المسيرى وليد لحظة، بل كان نتاج «رحلة فى الزمان والمكان» (كما هو عنوان سيرته الذاتية)، انتقل فى رحلته الفكرية من الماركسية المادية إلى ما سماه «الإنسانية الإسلامية»، مدافعا عن الإنسان كقيمة مركبة تتجاوز المادة، وواقفا ضد «تشييء» الإنسان (تحويله إلى شيء).. انضم إلى الحركة الماركسية وتأثر بالفكر اليسارى، مما أكسبه أدوات تحليلية قوية فى فهم الاقتصاد والصراع الطبقى، ثم الصدمة الحضارية فى أمريكا أثناء بعثته للدكتوراة، حيث لاحظ التفكك الأسرى وسيطرة «النموذج المادي»، كما كانت نكسة 1967 دافعا له لإعادة قراءة المشروع الصهيونى بعمق بوصفه مشروعا استيطانيا إحلاليا مرتبطا بالإمبريالية الغربية.. ثم جاء التحول نحو الإيمان لينتقل تدريجيا من «المادية» التى ترى الكون مادة صماء إلى رؤية تؤمن بأن الإنسان يحمل «نفحة إلهية» تجعله يتجاوز المادة، وهو ما قاده إلى «الإسلام الحضارى»..
ــــ عمل المسيرى فى عدة مواقع مرموقة أثرت فى تجربته ومنحته احتكاكًا عالميًا؛ فقد عمل فى جامعة عين شمس فى مصر أستاذًا للأدب الإنجليزى والمقارن وهى وظيفته الأساسية، كما عمل فى الأمم المتحدة فى نيويورك مستشارًا ثقافيًا للوفد الدائم لجامعة الدول العربية. وعمل أيضًا فى جامعة الملك سعود فى السعودية أستاذًا لفترة، كما عمل أستاذًا زائرًا فى جامعة الكويت، ثم عمل فى الجامعة الإسلامية العالمية فى ماليزيا أستاذًا ومحاضرًا.. وكان المسيرى مستشارًا لمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام حيث أشرف على العديد من الأبحاث المتعلقة بالصهيونية.. وترك المسيرى مكتبة ضخمة، حيث تقدّر مؤلفاته بـ أكثر من 50 كتابا بالعربية والإنجليزية، بخلاف عشرات الدراسات والمقالات، ومن كتبه «رحلتى الفكرية: فى البذور والجذور والثمر»، و«العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة» الذى يميز فيه بين فصل الدين عن الدولة وبين فصل القيم الإنسانية عن الحياة.. وله كذلك كتاب «الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان» وكتاب «الصهيونية والحضارة الغربية» الذى يربط فيه بين نشأة الصهيونية والتوسع الاستعمارى الغربى.
ــــ ومن أهم أعماله «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية» وهو مشروعه الأضخم الذى استغرق منه قرابة 20 عاما فى 8 مجلدات، ويُعد المرجع الأهم عربيا لفهم الصهيونية من الداخل.. كانت موسوعة د. المسيرى عن إسرائيل من أهم وأشمل الدراسات الأكاديمية حول اليهود تاريخًا وجذورًا.. خاض معركة فكرية وتاريخية كشف فيها جذور هذا الكيان اللقيط الذى يفتقد كل مقومات الاستمرار والبقاء، وكانت أهم معارك د. المسيرى الفكرية والتاريخية والسياسية.. ويوضح المسيرى كيف تحولت الصهيونية إلى حركة سياسية، تهدف لإقامة دولة يهودية فى فلسطين، مع تحليل الأسس الدينية والفلسفية التى تقوم عليها، بما فى ذلك التوراة والتلمود ورؤية الشعب اليهودى كشعب مختار.. ويبرز المسيرى التناقضات الداخلية فى المشروع الصهيونى، والإنجازات التى حققتها الدولة الصهيونية،.. كما تحلل الموسوعة دور القوى الغربية فى دعم الصهيونية والسيطرة على الشرق الأوسط، وتوضح التأثيرات الإستراتيجية لهذا التوجه، مع ربط الفكر الصهيونى بممارساته الاجتماعية والسياسية وتأثيره على العلاقة بين اليهود والفلسطينيين والمجتمعات العربية..
ــــ لم يتردد فى أن يعارض بشدة قضية السلام مع إسرائيل واتفاقية كامب ديفيد، وأن يقدم كل الشواهد لكشف حقيقة هذا الكيان المغتصب.. وعلى الجانب الآخر لم ينسَ المسيرى قضايا المجتمع الذى تنتمى إليه مصر الكنانة، فاختار جانب المعارضة أمام الواقع المصرى وما يعانيه المصريون من الفقر والتخلف، فأنشأ مع عدد من الكتاب والمفكرين جماعة «كفاية»، مطالبين بحياة سياسية حرة.. اصبح المسيرى رئيسًا للحركة التى استطاعت أن تجمع حولها نخبة من المثقفين والمفكرين والكتاب، ودخلت فى صدام مباشر مع السلطة.
ــــ ورغم سنوات العمر لم يتردد المسيرى فى اتخاذ موقف المعارضة والمطالبة بحصول المصريين على حريتهم وحقهم فى حياة كريمة.. ولم يتراجع د. المسيرى عن موقفه، وقاد مظاهرة مع زوجته فى أحد الأحياء الشعبية، وتم إلقاء القبض عليه وعلى زوجته د. هدى حجازى، وكان موقفًا صعبًا على د. المسيرى، فقد وجد نفسه وزوجته فى مكان موحش، وزاد من صعوبة الموقف أن الرجل كان يعانى ظروفًا صحية قاسية، ومرّ الوقت ثقيلًا وكانت ليلة حزينة أمام سلطة لم تعرف قدر الرجل ومكانته..
ـــــ خرج الدكتور عبد الوهاب المسيرى من محنته حزينًا، وقد زادت عليه محنة المرض، وإن بقى على موقفه فى رفض واستنكار ما حدث له ورفاقه فى الحركة.. واشتد المرض عليه، وإن بقى صامدًا أمام الإصرار على مطاردته وزوجته ورفاقه فى الحركة . ويبدو أن الجسد لم يتحمل مواقف الرجل، فرحل فى منتصف 2008، تاركًا خلفه رصيدًا من الدراسات والمواقف التى تشهد بأنه كان مفكرًا ومناضلًا أخلص لقضايا وطنه وأمته..
..ويبقى الشعر
وجْهٌ جَمِيلٌ ..
طافَ فِى عَيْنى قليلًا .. واسْتـَدارْ
فأراهُ كالعُشْبِ المسَافِر ..
فِى جَبين ِ الأرْض يَزْهُو فِى اخْضِرَارْ
وتـَمرُّ أقـْدَامُ السنِين عَليهِ .. يَخـْبُو..
ثـُمَّ يسْقـُط فِى اصْفرَارْ
كمْ عِشْتُ أجْرى خـَلـْفـَهُ
رَغمَ العَواصِف..والشَّواطِئ.. والقِفـَارْ
هَلْ آنَ للحُلـْم المسَافِر أنْ يَكـُفَّ عَن ِالدَّوَارْ؟
يَا سِنـْدباد العَصْر .. ارجعْ
لمْ يَعُدْ فِى الحُبِّ شَيْءٌ غَيْرُ هَذا الانـْتـحَارْ
ارْجعَ .. فـَإنَّ الأرْض شَاخَتْ
والسّنونَ الخُضْرَ يَأكـُلـُهـا البَوَارْ
ارْجعْ .. فإنَّ شَوَاطئ الأحْلام ِ
أضْنـَاهَا صُرَاخُ المَوْج مِنْ عَفـَن ِ البـِحَارْ
هَلْ آنَ للقـَلـْبِ الذى عَشقَ الرَّحِيلَ
بأنْ يَنـَامَ دَقيقة ً .. مِثـْلَ الصِغـَارْ ؟
هلْ آنَ للوجْهِ الـَّذِى صَلـَبُوه فوقَ قِناعِهِ عُمْرًا
بأنْ يُلـْقِى الِقنـَاعَ الـُمسْتـَعَارْ؟
وَجْهُ جَمِيلٌ
طافَ فِى عَيْنى قليلًا .. واسْتـَدَارْ
كانَ الوداعُ يُطلُّ مِنْ رَأسِي
وفِى العَيْنَين ِ سَاعَاتٌ تدُقُّ ..
وألفُ صَوْتٍ للقِطـَارْ
وَيْلى مِنَ الوجْه البَريء ..
يغـُوصُ فى قلـْبى فيُؤلمُنى القرارْ
لمَ لا أسَافرُ
بَعْدَ أنْ ضاقتْ بى الشُّطآنُ..وابْتعَدَ المزارْ ؟!
يا أيُّها الوجه الذى أدْمَى فؤَادي
أيُّ شَيْءٍ فيكَ يُغْرينى بهَذا الانتظارْ ؟
مَا زالَ يُسْكرُنى شُعَاعُكَ ..
رَغـْمَ أنَّ الضَّوْءَ فى عَينيَّ نارْ
أجْرى فألمَحُ ألـْفَ ظلٍّ فِى خُطايَ
فكيْفَ أنجُو الآنَ مِنْ هَذا الحِصَارْ؟
لِمَ لا أسَافِرُ ؟
ألفُ أرْض ٍتحْتـَوينِى.. ألـْفُ مُتـَّكأٍ.. ودَارْ
أنا لا أرَيَ شَيْئـًأ أمَامِي
غَيْرَ أشْلاءٍ تـُطاردُهَا العَواصِفُ.. والغـُبَارْ
كمْ ظلَّ يَخْدَعُنِى بَريقُ الصُّبح فِى عَيْنـَيْكِ ..
كـُنـْتُ أبيعُ أيَّامِى ويَحمِلـُنى الدَّمَارُ.. إلى الدَّمَارْ
قـْلبى الذَّى عـَلـَّمتـُهُ يَومًا جُنونَ العِشْق ِ
عَلــَّمَنِى هُمُومَ الانـْكسَارْ
كانتْ هَزَائِمُهُ عَلى الأطـْلال ِ..
تـَحْكِى قِصَّة القـَلـْبِ الـَّذِى
عَشقَ الرَّحيلَ مَعَ النـَّهَارْ
ورَأيْتـُهُ نـَجْمًا طريدًا
فِى سَمَاءِ الكـَوْن ِ يَبْحَثُ عَنْ مَدارْ
يَا سِنـْدبَادَ العَصْر
عهْدُ الحُبِّ ولــّى..
لنْ تـَرَى فِى القـَفـْر لؤلـُؤة ..
ولنْ تـَجـِدَ المحَارْ
وَجْهٌ جَمِيلٌ..
طافَ فِى عَيْنِى قليلًا.. واسْتـَدَارْ
وَمَضَيْتُ أجْرى خـَلـْفـُه..
فوجَدْتُ وَجْهـِى.. فِى الجـِدَارْ