بقلم : عبد المنعم سعيد
أصعب المقالات هي تلك التي تأتي تعليقاً على حدث لا تزال أنفاسه سارية وتطوراته جارية ولا تفصح عن كثير من الحقائق، ولا تفضي إلا إلى ما ندر من الأسرار. القصة تبدأ بإعلان لقاء بين الرئيسَيْن الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترمب في قاعدة عسكرية على أرض ولاية ألاسكا التي نادراً ما تكون مركزاً للأحداث المهمة. ولكن الولاية لها قيمة رمزية، فهي في الأصل كانت امتداداً روسياً إلى القارة الشمالية الأميركية عبر مضيق «بيرنغ» الذي قيل عنه إنه كان طريق عبور البشر إلى العالم الجديد. وهناك روايتان حول بيع روسيا الولاية، الأولى أنه لما كانت ألاسكا بعيدة عن مركز الدولة الروسية فإن تكاليف الإشراف عليها ورعايتها واستغلال مواردها كان مكلفاً، ومن ثم كان بيعها تخلصاً من أعباء روسية. والأخرى أن روسيا في عام 1867 كانت من الفقر بحيث باتت في حاجة ماسة إلى تدفئة خزينتها، ووجدت أن ثمن ألاسكا 7.2 مليون دولار المقدم من الرئيس أندرو جونسون يكفي للمهمة. وقتها كانت الولايات المتحدة خارجة من الحرب الأهلية، ولكنها وجدت العرض نوعاً من المساعدة لروسيا التي كانت في صف الثوار إبان حرب الاستقلال؛ فضلاً عن حيادها في أثناء الحرب الأهلية!
اختيار ألاسكا سوف يظل لغزاً، فهي بعيدة عن مركز الإعلام الدولي والمناطق اللامعة التي سبق اختيارها إعلامياً ولكن جانبها الصواب. ومع ذلك فقد كان إعلان اللقاء في حد ذاته مثيراً؛ لأنه آن أوان فض الاشتباك بين روسيا وأوكرانيا الذي وعد به ترمب في أثناء حملته الانتخابية، ولن يزيد وقت الوصول إليه على 24 ساعة. الواقع لم يسمح بذلك رغم أن ترمب في أول أيامه بالبيت الأبيض ضغط على أوكرانيا بأن التسوية سوف تتضمّن تنازلات جغرافية من قِبل كييف، وصاحب ذلك وقف المعونات العسكرية لأوكرانيا. كان ذلك مشجعاً بما فيه الكفاية لكي تشن موسكو مزيداً من الهجمات مع التوسع التدريجي في المواقع التي تحتلها. ما حدث بعد ذلك مع اعتذار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن ترمب غيّر اتجاهه باستئناف المساعدات إلى أوكرانيا، بعد أن تعهّد الأوروبيون بدفع ثمنها؛ وبعد أن وقعت أوكرانيا اتفاقاً مع روسيا تقوم فيه الأولى بفتح أبوابها لكي تستخرج واشنطن المعادن النادرة التي تذخر بها الأرض الأوكرانية.
تاريخياً فإن علاقة ترمب مع بوتين معقدة؛ إذ بدأت قبل ترشيحه لفترته الرئاسية الأولى، فقد كانت له علاقات تجارية مع موسكو ظهرت آثارها عندما قام مكتب التحقيق الفيدرالي (إف بي آي)، بقيادة جيمس كومي، بالتحقيق في محاولات تدخل روسيا بالحملة الرئاسية الأميركية عام 2016. النتيجة لم تكن قاطعة، وانتهت بإطاحة كومي، ولكن تفاصيلها ظلت جزءاً من السياسة الداخلية الأميركية التي قد تثير الشكوك حول اختيار ألاسكا للقاء بين ترمب وبوتين. مثل هذه الظلال التاريخية لم تأخذ كثيراً من حقيقة أن الحرب الروسية - الأوكرانية هي مركز العلاقات الآن بين موسكو وواشنطن، وما تعنيه من زاوية التوازن والتنافس العالمي. ما ذُكر من مصادر البيت الأبيض من أن جوهر الاجتماع هو استماع كلا الرئيسَيْن إلى الآخر، يجعل اللقاء استكشافياً رغم أن ترمب ظل مصمماً على وقف الحرب، والتسوية لا بد أن تتضمن تنازلات إقليمية أوكرانية، وفي قول آخر للرئيس الأميركي إنه سوف يكون هناك تنازل متبادل عن الأراضي!
هذه الإعلانات لم تلقَ تجاوباً إيجابياً من الطرفَيْن، ووقت كتابة هذا المقال قبل أسبوع فإن كلا الطرفين لم يكن على استعداد للتنازل عن مطالبه، سواء كانت الاستيلاء على إقليم دونباس من قبل روسيا، أو إقليم القرم من قبل أوكرانيا. مطالب الطرفين تضمنت ما هو أكثر. القائمة الروسية تشمل منع أوكرانيا من دخول حلف الأطلسي، وتغيير نظام الحكم، وتقييد التسلح. قائمة أوكرانيا تقوم على ما تعتقده كييف من أن المعتدي في الحرب هو روسيا، وبوتين شخصياً، ولذا فإنه لا ينبغي لها أن تحصل لا على مزايا إقليمية، أو تقييد عسكري على أوكرانيا لا يسمح لها بالدفاع عن نفسها.
قوائم المطالب على الجانبَيْن أكثر من ذلك، فروسيا تريد رفع جميع العقوبات الاقتصادية الواقعة عليها من أوروبا وأميركا والامتناع عن فرض عقوبات جديدة، وأوكرانيا من جانبها تريد سيادتها الكاملة على كامل أراضيها مصحوبة بضمانات دفاعية تمنع روسيا من شن الحرب عليها مرة أخرى. الأمر لا يمنع أن روسيا لديها مطالب تخص مكانتها وموقعها على طاولة القوى العظمى في العالم مع الولايات المتحدة والصين. كل ذلك يعني أن لقاء ألاسكا ليس أول اللقاءات ولن يكون آخرها.