بقلم:د. وحيد عبدالمجيد
فى تفسير التقدم العلمى والمعرفى اجتهادات وأفكار ونظريات عدة، أهمها نظريتان: الأولى هى نظرية التراكم التى تقوم على أن العلم عملية تراكمية، إذ يتطور بشكل تدريجى عبر الملاحظة والبحث والتجربة والحوار بين العلماء والباحثين، وصولاً إلى معرفة جديدة لا تلبث أن تُناقش وتُراجع وتُطور، وقد تُنقض نتيجة ظهور معطيات جديدة. أما النظرية الثانية فهى نظرية الثورات العلمية أو القطيعة المعرفية التى لا تنفى حدوث تراكم علمى تدريجى. ولكن هذا التراكم، وفقًا لها، تقطعه تحولات كبرى تؤدى إلى التحول من نموذج معرفى paradigm إلى آخر. وقد أحسن توماس كون مؤسسة نظرية الثورات العلمية هذه عندما لم ينكر وجود التراكم فى العلم والمعرفة، وإن اعتبره علمًا ماديًا يتطور بشكل قال عنه إنه روتينى، ووضعه فى مرتبة أقل من العلم الذى يُحدث طفرة كبرى فى لحظة معينة، ويؤدى إلى نموذج معرفى جديد مختلف عن سابقه أو سابقيه. ومن أمثلة الثورات العلمية بهذا المعنى التحول من رؤية بطليموس إلى رؤية كوبرنيكوس فى فهم الكون، والانتقال من فيزياء نيوتن إلى نسبية أينشتاين. غير أنه عندما نتأمل اللحظة التى يحدث فيها كشف علمى «ثورى» حسب النظرية الثانية، ربما يصعب تصور أنه جاء من فراغ، أو حدث خارج نطاق الحياة، وإلا صار نوعًا من الوحى الذى يوحى به، وليس عملاً من أعمال العلم الذى يمضى العالِم أو الباحث سنوات أو حتى عُمرًا كاملاً لكشفه. فالعالِم الذى ينشئ ما تعد ثورة علمية يقرأ ويطلع ويفكر ويتأمل ويناقش. وهو فى هذا كله يعتمد على معارف كثيرة. وقد لا يكون هدفه فى البداية أن يتجاوز كل ما سبقه من نظريات علمية وينشئ نموذجًا معرفيًا جديدًا. فهو، إذن، ينطلق مما سبق كشفه حتى إذا لم يعتمد عليه بشكل مباشر. وهذه، وغيرها، مقومات توصله إلى حالة يصير فيها جاهزًا لكشف علمى جديد يعد، والحال هكذا, مزيجًا من التراكم المعرفى والثورة العلمية. وهكذا يتواصل مسار التقدم العلمى دون أن ينفصل الجديد فيه بشكل كامل عما سبقه.