بقلم : مصطفي الفقي
لا يصنع الأمل الحقيقى إلا الألم الشديد هكذا تعلمنا على مستوى الأفراد، بينما يبدو الأمر أكثر وضوحًا بالنسبة للأمم الكبيرة والشعوب العريقة، فالحياة صعود وهبوط ومسيرة الوجود بها الانتصار والانكسار، ولاشك أن الهزائم الكبرى قد صنعت الانتصارات العظيمة بعد ذلك، ومازلت أتذكر الأيام الحزينة من شهر يونيو ١٩٦٧ عندما تجاسرت إسرائيل على دول الجوار العربى وشنت حربًا ضارية على ثلاث دول منها وتمكنت – لظروف عسكرية وسياسية – أن تلحق بها هزيمة نكراء سوف تظل غصة فى الحلق العربى ومصدرًا للإلهام بانتصار أكتوبر ١٩٧٣ بعد ذلك.
فألمانيا التى منيت بهزيمة كبرى فى الحرب العالمية الأولى هى التى استطاعت حشد قواها فى الحرب العالمية الثانية بعد أن اكتسحت جيوشها عددًا من دول غرب أوروبا وإقامة الرايخ الثالث وتهديد القارة بأكملها وإن كانت قد انتكست قواتها بعد ذلك وانكسرت شوكتها وانتحر قائدها، ونحن العرب خصوصًا فى مصر وسوريا ندرك أبعاد ما نقول، فلقد خرجت الدولتان من هزيمة ١٩٦٧ محطمتين تقريبًا إلى جانب الآثار النفسية الضاغطة والرياح الحزينة التى هبت على الوطن الذى تلقى هزيمة نكراء لا يستحقها أبدًا وتعرض لنكسة لم يكن يتوقعها، وقد كان السيناريو الأوحد الذى يردده المصريون هو أننا سوف ننتصر فلا يوجد لفرضية الهزيمة مكان لدينا، مع أن تاريخ الحروب العسكرية والنزاعات المسلحة يقتضى أن تكون كل السيناريوهات مطروحة وكل المفاجآت ورادة.
وينبغى على الجميع أن يقوم كل طرف بحشد كافة إمكاناته استعدادًا للمواجهة الحاسمة والحرب الضروس، ولقد ظن كثير من المصريين أن النصر هو النتيجة الوحيدة للمواجهة العسكرية مع إسرائيل ثم كانت الحرب الخاطفة فتحطم سلاح الجو المصرى على أرض المطارات وصدم المصريون كما لم يصدموا فى تاريخهم الحديث أبدًا، وبرز الزعيم جمال عبد الناصر متماسكًا يعلن تحمله للهزيمة واعتزاله العمل السياسى الرسمى ليعود إلى صفوف الجماهير مناضلًا ثوريًا، وما زلت أتذكر ليلة التاسع من يوليو من عام ١٩٦٧ عندما كنّا كشباب نجرى تحت جنح الظلام مع الأصوات المزعجة للمدافع المضادة للطائرات باحثين عن أمل منقبين عن عزاء، وفى ذلك الوقت اختلط الحابل بالنابل وبدت مصر وكأنها مضروبة فى خلاط كبير ينتج ما لا نتوقعه.
وتحمل الشعب المصرى الفترة بين حرب ١٩٦٧ و١٩٧٣ فى صلابة منقطعة النظير وشجاعة أخرجت المخزون التاريخى للأمة المصرية العريقة، وبدأ يطفو على السطح ركام كبير من التراكم التاريخى لعبقريتى الزمان والمكان فى تاريخ مصر الحديث، فإذا حرب الأعوام الستة قد تم اختزالها إلى ساعات ست من بداية ملحمة العبور العظيم حيث تحولت الهزيمة الكبيرة فى الأعماق المصرية إلى وقود للنصر مع تباشير العبور وبوادر الأخذ بالثأر، لقد آمنّا دائمًا بأن الآلام تحقق الآمال وأن الهزائم تصنع الانتصارات وأن الأمم العظيمة صاحبة قرارات عظمى ومواقف رائعة مهما كانت التحديات والتضحيات على مر الزمان.