انطفأت جمرة ابتسامة الذيب عايد

انطفأت جمرة ابتسامة الذيب عايد

انطفأت جمرة ابتسامة الذيب عايد

 العرب اليوم -

انطفأت جمرة ابتسامة الذيب عايد

حسن البطل

سأعود إلى رام الله منقوصة عايد عمرو، صاحب وقيد الابتسامة الأعذب، أو صاحب الوجه الذي من حديد مطاوع إذا صفن، ومن حديد ذائب إذا سطعت ابتسامته. إنه رجل مع بندقية. وكان يفخر بسجله الفدائي نفراً في سلاح الـمشاة، وعندما حمل القلـم كتب عن عاديات الزمن بحبر عاديّات التفاصيل الجميلة. هو، بالضبط، يختصر نفسه والتجربة كما في عنوان أسبوعيته الـمتقطعة في الزميلة الحياة الجديدة: "تداعيات الذيب جالساً على جاعد".
ما هو الجاعد يا عايد؟ هو الفراش الوثير للأعرابي في جلسته تحت خيمة. جلود وفيرة الفراء من الغنم والإبل. ولـماذا الذيب؟ لأنه الأصل البري للكلب الـمستأنس، ولأن هجوم الذئاب قمة تكتيك الفتك بالطريدة. الذئب يقاتل كما يفعل جندي القوات الخاصة، أو رجل العصابات في حرب الغوريلا.
عندما كانت مقاطعة رام الله كما كانت أول السلطة، بلا كثير تحوير ... وبلا كثير تدمير، كانت للذيب عايد "خشة" خاصة به أشبه بوجار الذئب، لها بابان: الأول يطل على الشارع العام، شارع الإرسال، والثاني على باحة الـمقاطعة. تصوروا جندي سلاح الـمشاة في جيش التحرير الفلسطيني يملك مفتاحاً خاصاً لباب صغير وواطئ في سور مبنى الـمقاطعة. من تلك الخشة الخشنة الأثاث والـمتفشخة التي تذكرك ببيوت أولى في قواعد الفدائيين بأغوار الأردن وقرب جنوب لبنان، كان الجندي عايد يدير عملاً إعلامياً دؤوباً وغير محدد الـمهام، أو متعدد الـمهام، كحالنا عندما بدأنا "الإعلام الـميداني" في الـمرحلة الفدائية.
لاحقاً، سأراه في مبنى "مرجعية فتح" الـمحترم والـمنظم بمنطقة البالوع ــ البيرة، يؤدي عملاً إعلامياً محدداً، وبين تلك الخشة في الـمقاطعة، وذلك الـمكتب الـمرتب في الـمرجعية، دأب على تدوين عاديّات التجربة، ومذكرات مقاتلين قدامى من ثوار العام 1936 أو كتائب الجهاد الـمقدس 1948... وأخيراً، زرته مرة أولى وأخيرة في بيت صغير هو ملحق أرضيٌّ ببيت أحد أصدقائه الـميسورين: فوضى معتادة في رفوف الـمكتبة كأنها صناديق ذخيرة من الرصاص لـمدافع رشاشة رباعية الفوهة. فوضى أوراق وأقلام على الطاولة الوحيدة الـملأى بفناجين القهوة وكؤوس الشاي نصف الفارغة ... ومنافض السجائر الطافحة بأعقابها.
هو عايد الذي لا تقول إنه رجل بملامح شرق أوسطية، بل رجل مع ملامح أعرابي أصيل. شعر أسود فاحم ولـماع، كثيف وطويل، دون شعرة بيضاء واحدة، فكيف يفقع فيه قلبه مع عتبة سن الخمسين الحرجة؟ كيف لابتسامته العذبة والدافئة ألا تكون أعمدة متينة تتحمل أوزار ورماد التجربة العاصفة والساخنة؟ كان يبدو لي كأنه التوازن بين الـمقاتل العارك والرجل الـمعروك. عركته الحياة العسكرية الفدائية بالنار والرصاص وموت الرفاق شباباً، وعركها بالقلـم والحبر.
حديثنا الأخير، قبل نكسة قلبية أخرى وقاتلة، كان عن رحيل زميله محمد طمليه. ذئب منفرد مثله، لكنه ذئب مثله في عرجلة الذئاب. يمكنك تدجين الكلب، ولا يمكنك استئناس الذيب ... حتى لو جلس على جاعد وثير. كان حانقاً على "الأصدقاء الخونة" الذين لـم يوفوا صديقه محمد طمليه حقه في حياته الـمرة وفي موته الـمرير. ليس هو ولا زميله الراحل من صعاليك الأدب، لكن من الخريجين الـمتفوقين لحياة الصعلكة الثقافية ... أي الثقافة الحقيقية، أو النار التي تعيد تطهير الحديد من الصدأ. قلت: حديد ونار وصدأ، أي نظافة حقيقية، ولـم أقل: خشب ميت ورطب تعلوه الطحالب الخضراء كما هي حياة بعض الـمثقفين الذين خانوا نار التجربة وحديدها، وتسلقوا السلالم، ووصلوا إلى هيئة الـمثقف الداجن.
مثقفو "قوارض الكتب" يفضحهم أسلوبهم الـمتكلف في الكتابة، وطريقتهم في قلة تقبل الاختلاف في الفكر؛ وأما عايد فكان صياغة محكمة للـمثقف الثوري، والإعلامي الـملتزم، والكاتب الذي يطوع عاديات الزمن إلى عاديات الناس الذين اجتازوا بسلام أو بجراح ثخينة في الروح معمودية الزمن الحقيقية: النار، والتجربة ... وهذا الرماد. يمكن لـمثقف قوارض الكتب أن يكون مثل دهاليز مغلقة ومظلـمة بلا مخرج، أما مثقف التجربة ووعي التجربة فهو كالبئر التي تنتح الـماء، أو كالينبوع الهادئ. التجربة مهمة ووعي التجربة هو الأهم، لأنه خميرتها ... أو جمراتها.
وفي رحيل عايد أتعاطف مع صديقه وضاح زقطان، الصادق مثله والـمتصعلك ومثقف التجربة مثله، وطالب صف الأسلوب مثله ... لكنني كذلك أتعاطف مع صديقه زياد خداش، الذي يهرب من نهر السياسة العكر إلى أفق الثقافة، وإلى دهاليز الإنسان. لقد كُتب على زياد أن يرثي أصدقاءه واحداً تلو الآخر ... وسيكون درب الرثاء طويلاً لأنه أصغرنا سناً.
بالنسبة لي، وأنا على مبعدة من حلقته الأثيرة، سأقول: مات رجل رائع ومثقف حقيقي. انطفأت جمرة ابتسامته وتجمد الحديد الذائب على صفحة وجهه.
من مزيج العصفور الدوري والذئب كان عايد ... أنيس وغير مستأنس. نقول وداعاً ونضمر إلى اللقاء.

 

arabstoday

GMT 23:51 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

طهران ــ بيونغيانغ والنموذج المُحتمل

GMT 23:10 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

ماذا نريد؟

GMT 23:06 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

أكذوبة النموذج الإسرائيلي!

GMT 21:15 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

الأهلي في أحلام الفيفا الكبيرة..!

GMT 20:59 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

نجيب محفوظ كاتب أطفال

GMT 20:56 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

أرجوحة الخديو

GMT 20:54 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

رفح وعلم التخصص وأسئلة النساء

GMT 20:48 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

روشتة لمواجهة الحر!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

انطفأت جمرة ابتسامة الذيب عايد انطفأت جمرة ابتسامة الذيب عايد



GMT 23:31 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

منى واصف تكشف عن أمنيتها بعد الوفاة

GMT 23:06 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

أكذوبة النموذج الإسرائيلي!

GMT 08:56 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

شهيد في غارة إسرائيلية استهدفت سيارة جنوب لبنان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab