خياران أحلاهما مُرُّ بانتظار حزب الله، كلفة الاحتفاظ بالسلاح باهظة للغاية، عليه وعلى لبنان، والتخلي عنه، يكاد يكون انتحاراً سياسياً، يُخرج الحزب من ثوبه، ومن كل ما نشأ عليه ومن أجله...فيما الرهان على "عامل الوقت"، أو البحث عن مخرج، يبدو معلقاً على المجهول.
في لبنان، ثمة أغلبية سياسية وشعبية، تبلورت في ضوء نتائج "حربي الإسناد" و"أولي البأس"، باتت تنظر للسلاح باعتباره فاقداً القدرة على الحماية والردع والتحرير في مواجهة إسرائيل، وهي الوظائف الثلاث التي تراكم السلاح من أجلها، وشكلت المبرر لانفراد الحزب طيلة أكثير من أربعة عقود، في حمله وتخزينه وتطويره واستخدامه ... اليوم، يجد الحزب صعوبة في تسويق هذه الوظائف على جمهور متزايد من اللبنانيين، سيما من خارج بيئته الشيعية الحاضنة.
غالبية مسيحية وسنيّة ودرزية، وأقلية شيعية، باتت تدعم توجه الدولة الجديد، والجريء، في معالجة قضيتي "حصرية السلاح" و"قرار الحرب والسلم" ... وحتى من بين الشيعة أنفسهم، فإن ثمة فريق لا بأس به، من داعمي احتفاظ الحزب بسلاحه، إنما ينطلقون في مواقفهم من اعتبارات داخلية، ومخاوف (مشروعة أو غير مشروعة) على مستقبل الطائفة ومكانتها، أو يتحسبون لتداعيات الحدث السوري على لبنان وتوازنات القوى فيه، منذ سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر الفائت ... بهذا المعنى، لم يعد هذا الفريق يربط السلاح بمقاومة إسرائيل أو تحرير ما تبقى من أراضي الجنوب، بل بديناميات العلاقة مع القوى والمكونات الأخرى، لبنانياً، وامتداداتها السورية.
لا شك أن فريقاً من اللبنانيين، لم ينظر يوماً بعين الرضا عن المقاومة والحزب والسلاح، وهو سبق وأن أشهر سلاحه في مواجهة المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، ولم يتوان عن استدعاء مختلف أشكال الدعم والتدخل الإسرائيلية، لإنجاز الحسم في معركة الداخل ... هذا الفريق، ما زال "وفياً" لمواقفه ونهجه، وهو بات أكثر جرأة في التصدي لمسألة السلاح، والتحريض عليه، والاستقواء بـ"الخارج" على الفريق الذي يحمله.
و"الخارج" اليوم، لم يعد إسرائيل حصراً، فالولايات المتحدة، تقود أشد حملات التضييق والحصار على سلاح الحزب ومسلحيه، وتسعى في تقطيع شرايينه، وتجفيف موارده، من مالية واقتصادية، وتؤلب عليه الدولة والمؤسسات والأحزاب وكل الحلفاء المحليين، وهي تستعجل إنجاز هذه المهمة من دون تردد، ومن ضمن تكتيكاتها، التلويح بورقة "بلاد الشام"، و"تلزيم" لبنان لسوريا، كما ورد على لسان توم باراك، الموفد الأمريكي، الكاره لسايكس – بيكو، والمتحمس لفكرة إعادة ترسيم خرائط المنطقة، على خطوط الطوائف والمذاهب والأقوام، والداعم بشكل "مداهن" لنظرية جدعون ساعر حول "حلف الأقليات"، وهي النظرية التي عبر مؤتمر الحسكة الأخير، عن خطوة عملية باتجاه ترجمتها، بدعم فرنسي، وضوء أخضر أمريكي، وفي مواجهة النظام الجديد في دمشق...وأبعد منه، في مواجهة أنقرة وحلفائها السوريين.
يشعر هذا الفريق المتسع من اللبنانيين، أن لبنان بانتظار "فرصة تاريخية" لإغلاق ملف مضى عليه مفتوحاً أكثر من أربعة عقود، ودائماً تحت شعار بناء الدولة القوية العادلة والضامنة للجميع ... لكأن هذا الفريق، في سباق مع الزمن، حتى لا تفقد "الفرصة" زخمها وقواها الدافعة.
رهانات الحزب
لكن ثمة ما يجعل مهمة هذا الفريق، صعبة للغاية، فلا إسرائيل ألتزمت باتفاق 27 نوفمبر، وأوقفت عدواناتها المتكررة والمتمادية على لبنان، ولا الولايات المتحدة، بصدد تقديم ضمانات مقنعة للدولة اللبنانية، بأن مرحلة ما بعد تسليم السلاح، ستعيد للبنان أرضه وأسراه وسلامه واستقراره وازدهاره...حتى بلغ الأمر بأكثر المتحمسين لنزع السلاح، حد التعبير عن موقفه بلغة الاحتمالات والترجيحات، بلا أي ضمانة أو يقين، وهذا أمرٌ يدفع الحزب وأنصاره إلى التحذير من "قفزة في المجهول".
وثمة عامل آخر، يلعب، وسيلعب دوراً في حسم مسألة السلاح، وأعني به "العامل السوري"، إذ ربما يراهن الحزب على ما يمكن أن تأتي به التطورات المتلاحقة في المشهد السوري، ونشؤ "مسألة درزية" إلى جانب "المسألة الكردية"، وربما بعد حين، "مسألة علوية"، من تحولات في مواقف الدولة والرأي العام اللبنانيين من الحزب والسلاح، ذلك أن الصور المبثوثة من سوريا عن صدامات و"جرائم" على خلفية طائفة ومذهبية، لا تساعد في طمأنة مكونات لبنانية عديدة إلى سلامة مستقبلها، ومن ضمنها جهات، لا تكنّ ودّاً ظاهراً أو مضمراً للحزب.
على أن أسوأ ما يمكن أن يبني عليه الحزب من رهانات، هو الاعتقاد بأن إسرائيل سئمت الحرب وتستصعب العودة، سواء للإعياء الذي أصاب جيشها أو لانشغالاتها على جبهة غزة، أو الافتراض بأن مستقبل الحزب والسلاح، سيكون مطروحاً على مائدة التفاوض بين إيران والولايات المتحدة، حين تلتئم ... لا إسرائيل بوارد التوقف عن استهداف لبنان، سيما وأنها ترى في حربها عليه، حرباً بلا كلفة ... ولا إيران، ستقدم مصلحة الحزب والسلاح، على حسابات أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية حال بدأت بحثاً جدياً حول هذه العناوين مع واشنطن والغرب.
صدام مستبعد
يخشى لبنانيون كثر، من مغبة أن تحول الخلاف بين الدولة والحزب، إلى صدام بين الأخير والجيش، وفي ظني أن لا الحزب ولا الجيش، لديهما الرغبة والإرادة والمصلحة في الوصول إلى صدام كهذا، ترفضه غالبية اللبنانيين، ولا تحرض عليه سوى أقلية منهم ... وأحسب أن صداماً كهذا، لن يترك الحزب معزولاً في بيئته الوطنية والمذهبية فحسب، بل وقد يتهدد مصير الجيش ووحدته وتماسكه، وربما يعيد انتاج سيناريو "الحرب الأهلية"، إذ انقسم الجيش إلى عدة جيوش على أساس مذهبي وطائفي.
استبعاد سيناريو الصدام بين الجيش والحزب، لا يعني أن لبنان سينجح في تفادي احتمال عودة الحرب من جديد، ولكن بين إسرائيل وحزب الله ... امتناع الحزب عن تسليم سلاح للجيش، سيعطي إسرائيل مبرراً لتوجيه ضربات "لئيمة" لمواقعه ومقدراته، وربما العودة إلى الاغتيالات "رفيعة المستوى"...وقيام الحزب بالردّ على العدوانات الإسرائيلية، سيطلق يد إسرائيل في ترجمة سيناريو غزة في لبنان ...ولا أحد يعرف حتى الآن، ما إذا كان الحزب قادراً على استعادة "معادلة التوازن والردع"، وفرض قواعد اشتباك جديدة مع إسرائيل ... أغلب التقديرات، تقول أن الحزب ليس في وضع عسكري سيمكنه من فعل ذلك، والأهم أنه سيُحَمّل المسؤولية عن عودة التصعيد، وسط انكشاف في الغطاء اللبناني والعربي والدولي، ووسط ضعف قوى وأطراف ما كان "محوراً للمقاومة والممانعة" ذات يوم.
معنى أن يتخلى الحزب عن سلاحه
مقابل ذلك، فإن قبول الحزب بتسليم سلاحه للجيش، والتحوّل كلياً للعمل السياسي المحلي، يعني أنه فقد "فرادته"، وأنه سيكون حزباً من بين أحزاب أخرى عديدة، ليس أقواها بالضرورة، لا في الشارع ولا في البرلمان ولا في الحكومة ... يعني أنه سيفتح فصلاً من المراجعة والمساءلة، قد لا ينتهي لصالحه، سيما بوجود عشرات ألوف الشهداء والجرحى، وعوائلهم، الذين لم يقطعوا كل هذا الشوط مع الحزب، وقدموا كل هذه التضحيات على مذبح المقاومة، لينتهوا إلى "صناديق المعونة والإغاثة" ... حزب الله بلا سلاح، لن يبقى قوة مهيمنة حتى في الوسط الشيعي، بل وقد لا يبقى الثنائي الشيعي متفرداً بتمثيل الطائفة والنطق باسمها، وقد تنشأ تيارات واتجاهات داخلها، متصادمة مع الحزب والثنائي، ومصطرعة مع اطروحاتهما.
والأخطر من كل هذا وذاك، وأهم، أن إسرائيل لن تدع الحزب وشأنه، حتى إن هو قرر تسليم سلاحه، وستواصل حكومة اليمين الفاشي،" أخذ زمام أمنها في لبنان بيدها"، وتحت شعار "يد طليقة في لبنان"، ستعمل على إذلال الحزب في كل مناسبة، وتذكيره بأنها هي من انتصر وهو من هزم، كما ستعمل على "تسوية الحساب" مع كل من تورط بإراقة دماء إسرائيلية، وسيظل لبنان من منظورها الاستراتيجي، "مجالاً حيوياً" لنظرية الأمن القومي الإسرائيلي...وتأسيساً على تجارب متراكمة للتعامل مع هذا الكيان، فإنه سيلجأ إلى ممارسة "التنمر" وطلب المزيد من الإذعان والتنازلات، كلما استشعر ضعفاً وهواناً، وكلما أحسّ بأن الطرف المقابل، قد قرر الخروج من ميدان المواجهة
لقد فقد سلاح الحزب، "دوراً إقليمياً" لطالما اضطلع به من موقع قيادي، وفي ساحات عدة، وليس في سوريا وحدها، إثر النتائج الكارثية لحربي "الاسناد" و"أولي البأس" ... اليوم، يبدو هذا السلاح، مهدداً بفقدان دوره الوطني، في ظل تفاقم مأزق الخيارات المطروحة، واشتداد مصاعب الاحتفاظ به أو التخلي عنه ... لا خيارات سهلة أمام الحزب، والشيء ذاته، ينطبق بقدرٍ أكبر على لبنان برمته.
فالدولة اللبنانية، محاصرة بضغوط لا قبل لها عليها، من أشقائها وأصدقائها، عرباً وأوروبيين وأمريكيين، وجميعها تندرج تحت عنوان "حصرية السلاح"، فيما إعادة إعمار لبنان ووضعه على سكة التعافي المبكر وخروجه من شرنقة الحصار والعقوبات، ينتظر إنجازاً سريعاً على هذا الدرب...والدولة، المتحمسة لسحب السلاح، تدرك أن استخدام القوة لفعل ذلك، هو "وصفة خراب" قد تقود إلى تجدد الحرب الأهلية من جديد، وهذا كابوس يسعى عقلاء لبنان في تفاديه.
ترك المهمة لإسرائيل
أمام هذه الاستعصاء المزدوج، استعصاء الدولة والحزب، فإن أكثر السيناريوهات ترجيحاً، هو ترك المهمة لإسرائيل، ليس باتفاق "تآمري" مباشر وصريح بين الأطراف، بل من خلال "تقاسم موضوعي" للمهام والأدوار، كأن يعاود سلاح الجو توجيه ضربات نوعية تدميرية مكثفة للحزب وبيئته الاجتماعية في الجنوب والضاحية والبقاع على نطاق أوسع مما يفعله اليوم، وأن يعاود "الموساد" سياسة الاغتيالات ويتوسع بها، فلا تقتصر على الجناح العسكري فقط، كما هي جارية منذ وقف إطلاق النار، وبعدها يمكن معاودة النقاش المحلي حول السلاح في ظروف مختلفة، يكون فيها الحزب في موقع أضعف، أو هكذا يُراهَن بعضهم على أقل تقدير.