متى تتصالح إيران مع العالم بدل الاعتقاد أنّها قادرة على الاستمرار في تحدي محيطها المباشر والغرب، ممثلا بأوروبا وأميركا.
تتحدّث “الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانيّة عن ظلم لاحق بها في ضوء فرض مجموعة عقوبات دولية عليها مجدّدا، على خلفية برنامجها النووي. عن أي ظلم تتحدث إيران وعن أي خرق للقانون الدولي في حال أخذنا في الاعتبار ما تفعله في المنطقة عبر أدواتها المنتشرة فيها. متى احترمت إيران القانون الدولي؟ هل احترمته في لبنان حيث تسلح “حزب الله” وتموله منذ ما يزيد على أربعين عاما؟ هل احترمت القانون الدولي في العراق حيث عدد الميليشيات المذهبيّة التابعة لها لا يحصى؟ هل احترمت القانون الدولي في سوريا حيث شاركت طوال ثلاثة عشر عاما في حرب إبادة وتهجير تعرّض لها الشعب السوري بهدف تغيير الطبيعة الديموغرافية للبلد؟
هذا غيض من فيض الممارسات الإيرانيّة في المنطقة، وهي ممارسات يمكن وضعها تحت عنوان واحد وحيد هو ضرب الاستقرار في الشرق الأوسط والخليج وفي مناطق ابعد منهما… وصولا إلى شمال إفريقيا والقرن الإفريقي من دون تجاهل اليمن.
سبق للعقوبات الدولية على إيران أن رفعت، في معظمها، بموجب اتفاق العام 2015 الذي وقعته “الجمهوريّة الإسلاميّة” مع مجموعة البلدان الخمسة زائدا واحدا. أي البلدان الخمسة ذات العضوية لدائمة في مجلس الأمن التي أضيفت إليها ألمانيا. كانت الولايات المتحدة أول من انسحب من الاتفاق في الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب. لم يغب عن بال ترامب أنّ الاتفاق النووي الذي وقّع في عهد باراك أوباما كان “الاتفاق الأسوأ” من نوعه.
◙ هذا غيض من فيض الممارسات الإيرانيّة في المنطقة وهي ممارسات يمكن وضعها تحت عنوان واحد وحيد هو ضرب الاستقرار في الشرق الأوسط والخليج وفي مناطق أبعد منهما
تشير عودة العقوبات على “الجمهوريّة الإسلاميّة” إلى وجود رغبة غربيّة في التعاطي مع إيران بطريقة مختلفة في ضوء المعطيات الإقليمية التي نشأت عن حرب غزة التي بدأت قبل عامين من جهة وخسارة إيران لكلّ الحروب التي خاضتها على هامش حرب غزّة من جهة أخرى. تبدو إيران غير مستعدّة لدفع ثمن هزائمها الإقليمية بعدما قرّرت استغلال حرب غزّة التي بدأت بهجوم “طوفان الأقصى” أنّها تمتلك قرار توسيع هذه الحرب. يكشف الرفض الإيراني للاعتراف بالواقع الإقليمي الجديد ذلك الإصرار على استخدام “حزب الله” في حربه المستمرّة على الدولة اللبنانيّة وعلى اللبنانيين، فضلا عن استخدام الحوثيين في التسبب بإزعاج فعلي لإسرائيل غير آبهة بأوضاع اليمنيين في المناطق الواقعة تحت سيطرة هؤلاء.
بات السؤال الآن كيف ستردّ طهران على هذه الطريقة المختلفة في التعاطي الغربي معها رافضة أخذ العلم بما حدث في المنطقة من تغيّرات؟ يظلّ أبرز هذه التغيّرات الخروج الإيراني من سوريا وعودة سوريا إلى بلد تحكمه الأكثريّة السنّية بغض النظر عمّا سيحلّ بالنظام القائم حاليا برئاسة أحمد الشرع ومستقبله والتأييد الدولي الذي يحظى به. لا ترجمة واضحة لهذا التأييد غير تأكيد أنّ لا عودة إيرانيّة إلى سوريا في يوم من الأيّام.
فُرضت العقوبات مجدداً بعدما فعّلت بريطانيا وفرنسا وألمانيا، المعروفة بدول الترويكا، “آلية الزناد” المدرجة في اتفاق العام 2015، متّهمة طهران بعدم الإيفاء بالتزاماتها. لم تمض ساعات على الإعلان عن عودة العقوبات، التي تستهدف شركات ومنظمات وأفراداً يساهمون بشكل مباشر أو غير مباشر في برنامج إيران النووي أو تطوير صواريخها الباليستية، حتّى طرأ هبوط آخر على سعر العملة الإيرانيّة.
من الواضح أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” تتصرّف وكأنها لم تخسر سوريا ولم تخسر “حزب الله” الذي لو لم يُهزم في الحرب التي خاضها مع إسرائيل (حرب إسناد غزّة)، لما سمح بانتخاب جوزيف عون رئيسا للجمهورية مطلع هذه السنة ولما كانت توجد حكومة لبنانيّة برئاسة نواف سلم…
لن يكون سهلا التعاطي الغربي مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” وبرنامجها النووي وصواريخها. يعود ذلك إلى أن إيران ما زالت تعتقد أنّ لديها ما يكفي من الأوراق التي تسمح لها بأن تكون لاعبا محوريا، لا يمكن لأي طرف تجاوزه، إقليميا ودوليا. يدلّ على ذلك تعطيل الحياة السياسيّة في لبنان عن طريق التمسّك بسلاح “حزب الله” مع ما يعنيه ذلك من بقاء للاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان ومن خطر تجدّد الحرب الإسرائيلية على البلد. ليس سرّا أن إسرائيل أعدت نفسها لضرب أهداف في كلّ لبنان في وقت لا استعداد أميركيّا من أي نوع لردعها.
◙ "الجمهوريّة الإسلاميّة" ستستمر في ممارسة تجارتها المفضّلة القائمة على استخدام أدواتها الإقليمية غير آبهة بأنّ عليها الانصراف إلى معالجة أوضاعها الداخلية
مرّة أخرى يبدو أن لدى إيران حساباتها التي تنطلق من أنّ ليس مهمّا ما يحلّ بلبنان واللبنانيين واليمن واليمنيين. المهمّ بالنسبة إليها تحدي دول المنطقة والعالم ورفض الاعتراف بالتغيير الكبير الذي حصل في الإقليم. فوق ذلك كلّه، يوجد إصرار إيراني على وجود تفاهمات بين “الجمهوريّة الإسلاميّة” من جهة ودول الخليج العربي وأهداف مشتركة مع هذه الدول من جهة أخرى.
تردّ إيران عمليا على العقوبات بالتظاهر أنّ كل شيء على ما يرام بالنسبة إليها. لا يزال النظام يعتقد أنّ في استطاعته تصدير أزماته إلى خارج الحدود وأنّ العراق لا يزال في الجيب الإيرانيّة… كذلك لبنان وجزء من اليمن.
ستستمر “الجمهوريّة الإسلاميّة” في ممارسة تجارتها المفضّلة القائمة على استخدام أدواتها الإقليمية غير آبهة بأنّ عليها الانصراف إلى معالجة أوضاعها الداخلية، بما في ذلك حال العطش التي تعاني منها مناطق عدّة بما في ذلك مدينة طهران…
متى تتصالح إيران مع العالم بدل الاعتقاد أنّها قادرة على الاستمرار في تحدي محيطها المباشر والغرب، ممثلا بأوروبا وأميركا، وأنّ روسيا والصين ستسمحان لها بالتحايل على العقوبات الدوليّة وتجاوزها؟
بعض المنطق ضروري بين حين وآخر. لا يمكن للقانون الدولي حماية نظام قرر منذ قيامه أن يكون خارج القانون، بدءا من احتجاز دبلوماسيي السفارة الأميركية في طهران طوال 444 يوما في خريف العام 1979!