ماذا نعرف ماذا قد نعرف وماذا لن نعرف

ماذا نعرف؟ ماذا قد نعرف؟ وماذا لن نعرف؟

ماذا نعرف؟ ماذا قد نعرف؟ وماذا لن نعرف؟

 العرب اليوم -

ماذا نعرف ماذا قد نعرف وماذا لن نعرف

بقلم - حازم صاغية

ذات مرّة شاهدت فيلماً سينمائيّاً برفقة صديق طاعن في الوعي الآيديولوجيّ. الفيلم كان بوليسيّاً، ابتدأ برسم صورة ورديّة للشرطيّ: ينصر المظلوم وينحاز إلى الحقّ ويطبّق القانون، مُغلّباً المصلحة العامّة على مصلحته وعلى كلّ مصلحة خاصّة. صديقي مال صوبي وهمس لي بأنّ هوليوود الشرّيرة تفعلها مرّة أخرى. فهي تصوّر رجلاً ليس سوى أداة قمع صغيرة كما لو كان ملاكاً حارساً. أو ليست هذه وظيفة هوليوود في التحليل الأخير؟
بضع دقائق كانت كافية لأن يُفهمنا الفيلم أنّ هذا الشرطيّ شخص فاسد ومُرتشٍ، وأنّه كان في بداية الفيلم يؤدّي دوراً خادعاً مُضلّلاً خدمةً منه لأغراضه الملتوية. وأنا لم أقل شيئاً لصديقي، مدركاً أنّني لو قلتُ لعاجلني بالعبارة الأثيرة: «ولكنّ هوليوود في المحصّلة الأخيرة هي...».
والحال أنّ الغرض هنا ليس الدفاع عن هوليوود، لكنّه محاولة في تظهير طريقة في التفكير لا تتردّد في إعلان معرفتها المسبقة والمطلقة في آن معاً. صاحبها يتّجه كالسهم نحو هدفه، فإذا جافاه التفصيل اعتمد، بوصفه خبير «محصّلات أخيرة»، على «محصّلة أخيرة» أخرى يعرفها سلفاً.
إنّها الوعي الغائيّ (teleological) الذي لا يعبأ بتاتاً بما هو تجريبيّ (empirical) في الواقع.
فيلسوف العلوم النمساويّ البريطانيّ كارل بوبر، كان أحد أكثر الذين حذّرونا من هذه المعرفة الأوتوستراديّة التي لا تأتيها الحيرة من يمين أو يسار. في كتابيه «المجتمع المفتوح وأعداؤه» و«بؤس التاريخانيّة»، وفي مقالات ودراسات عديدة، تناول الظاهرة هذه، عائداً بأصولها إلى أثينا الإغريقيّة. هناك كان المجتمع «مفتوحاً»، والفرد المواطن حرّاً ومسؤولاً عن القرارات التي تتّصل بحياته، وفي مجتمع كهذا يتصرّف الفرد آخذاً في الاعتبار أنّه قد يخطئ، فيكون دائم الاستعداد لتحسين فهمه لما يعرض له من ظاهرات وتجارب. والتصوّر هذا إنّما يزرع في حامله نوعاً من القلق المبدع والمتعب معاً، نوعاً لا تعرفه المجتمعات المغلقة التي تستقرّ على إجابات جاهزة وعلى تشكيلات وقرابات دمويّة معطاة.
لكنّ ثلاثة من عظام تاريخ الأفكار أسّسوا التحوّل في اتّجاه آخر هو الذي آل، في العصر الحديث، إلى التوتاليتاريّة. أوّلهم، حسب بوبر، كان أفلاطون الذي تأثّر بأحداث عصره وبآلامه وخيباته، من اتّهام أستاذه سقراط بتخريب الشبيبة وإفسادها، ما حمله على تجرّع السمّ، إلى احتلال إسبارطة لأثينا في الحرب البيلوبونيزيّة. وكما نعلم، صاغ أفلاطون في جمهوريّته، وفي ما بات يُعرف بـ«استعارة الكهف»، عالمين: ففي العالم الأرضيّ حيث نعيش، هناك الظلال الزائفة والشائهة للأشكال المثلى التي تقيم في الحيّز الثاني، أي الحيّز الافتراضيّ، أو «عالم الأشكال». وإذا كان هذا الأخير يضمّ ما هو ناصع وخالد وعابر للأزمنة، فإنّ النُسخ الأرضيّة الناقصة خاضعة للتفسّخ والتداعي، مثلما تتداعى أجسامنا وتهرم. يصحّ ذلك في الدولة المدينة ونظامها، كما يصحّ في الحضارة على العموم.
وعند أفلاطون، كاره الديمقراطيّة الذي ساواها بالفوضى ورآها تمهيداً لطغيان العامّة، يستدعي علاجُ التداعي والتفسّخ هذين أن نفهم «الكلّ»، أي جميع مكوّنات الظاهرة المعنيّة، وبالتالي أن نأتي بحاكم يجيد هذا الفهم ويردع التداعي. وإذ تتوحّد في حاكم كهذا السلطة والفلسفة، الفعل والإدراك، يكون الحاكم العتيد «ملكاً فيلسوفاً». هكذا يتربّع في الذروة من ورث الحكم ورُبّي على أداء هذه المهمّة، فبات مجرّباً في معرفة ما هو جوهريّ ومثاليّ في الأشياء والظاهرات.
بعد أفلاطون ونزعته «الكلّيّة»، جاء هيغل وماركس بـ«التاريخانيّة»، حيث السلوك الإنسانيّ الجماعيّ داخل مجتمع ما سلوكٌ قصديّ بالضرورة، وليس بحال عرضيّاً أو عشوائيّاً أو منيعاً على التوقّع. ذاك أنّه، وفق الفيلسوفين الألمانيّين، يمكن إدراك أنماط معيّنة لحركة المجتمع وتقدّمه والقبض عليها، وهو ما سيغدو قوانين للتطوّر التاريخيّ والسلوك الإنسانيّ تُستنبط معها وجهة للمستقبل، وجهةٌ ليس علينا نحن البشر سوى الدفع باتّجاه ظفرها أو التعجيل فيه. هكذا ننتقل من التاريخ إلى نهاية التاريخ التي يحلّ معها مستوى غير مسبوق من السلام والحرّيّة للبشر أجمعين. والتصوّر هذا إنّما يحضّ، في عرف بوبر، على هندسة اجتماعيّة بالغة القسوة يكون هدفها تهيئة الناس لتلك الوجهة ودفعهم إلى مواكبتها.
ويُبقينا بوبر، من دون انقطاع، أمام تمييز صارخ بين ما يمكن اعتباره المعرفة المتواضعة للعلماء والفلاسفة وما يُفترض أنّه معرفة الأنبياء. فهو مثلاً يمجّ تعابير كـ«تاريخ الجنس البشريّ» فيما لا يوجد بين أيدينا مثل هذا التاريخ الشامل. أمّا المطروح علينا فليس أن نكون مُصيبين، بل أن نكون أقلّ خطأً دائماً. وفي الوجهة ذاتها، كان من إنجازات الفيلسوف النمساويّ البريطانيّ تأسيسه مفهوم الـ«Falsifiability»، أي القابليّة لبرهنة الخطأ عبر الملاحظة أو التجربة: فما يميّز العلميّ عن غيره أنّ التكهّنات العلميّة تطرح فرضيّات عن العالم، والفرضيّاتُ هذه تحتمل البرهنة على خطئها، فحين لا يكون ممكناً توفير البراهين على ذاك الخطأ، فإنّ الفرضيّات المذكورة لا تكون علماً.
وفي نصّ آخر، راجع بوبر القول الذي بات كلاسيكيّاً: «كلّ البجعات بيضاء». ذاك أنّ هذه «القناعة» ظلّت معمولاً بها لقرون إلى أن شاهد مكتشفون ورحّالة أوروبيّون في القرن السابع عشر بجعات سوداء للمرّة الأولى. والحقّ أنّ عبارة كهذه لا بدّ أن تكون مخطئة لأسباب ثلاثة: فالذي رأى البجعات التي شوهدت لم ير كلّ البجعات في العالم كي يُصدر حكماً إطلاقيّاً كهذا، ثمّ أنّنا لا نعرف على أيّة هيئة كانت البجعات في الماضي، وأخيراً، نحن نجهل على أيّة هيئة ستصير البجعات في المستقبل.
لقد منّت علينا اللغة بكلمات من نوع «قد» و«ربّما» و«يُرجّح» و«يُحتمل» و«أغلب الظنّ»... هذه ينبغي أن نحتمي بها، وأن نستخدمها أكثر ممّا نفعل. أمّا صديقي، فكان من الأفضل أن يتروّى وينتظر نهاية الفيلم.

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ماذا نعرف ماذا قد نعرف وماذا لن نعرف ماذا نعرف ماذا قد نعرف وماذا لن نعرف



أنغام تتألق بفستان أنيق وتلهم عاشقات الأناقة في سهرات الخريف

القاهرة - السعودية اليوم

GMT 23:24 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

غارات مسيرة تستهدف قيادات القاعدة في شبوة اليمنية
 العرب اليوم - غارات مسيرة تستهدف قيادات القاعدة في شبوة اليمنية

GMT 15:46 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

علماء يكتشفون مفتاح إطالة عمر الإنسان عبر الحمض النووي
 العرب اليوم - علماء يكتشفون مفتاح إطالة عمر الإنسان عبر الحمض النووي
 العرب اليوم - أنباء انفصال هنادي مهنا وأحمد خالد صالح تثير الجدل من جديد

GMT 21:22 2025 السبت ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

جدل واسع في المغرب بسبب التكريمات المتكررة لليلى علوي

GMT 03:55 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الشرع في واشنطن ضمن زيارة رسمية يجتمع خلالها مع ترامب

GMT 22:48 2025 السبت ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

أفغانستان تؤكد فشل جهود السلام مع باكستان

GMT 22:52 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إقبال تاريخي على المتحف الكبير في مصر مع زيارات غير مسبوقة

GMT 11:15 2025 السبت ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

فيفا يطلق جائزة للسلام وسط توقعات بفوز ترامب

GMT 11:55 2025 السبت ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

"أوبن أيه آي" تسارع لطمأنة المستثمرين بشأن وضعها المالي

GMT 14:33 2025 السبت ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

8 وصفات طبيعية لإزالة السموم ودعم وظائف الكلى

GMT 19:39 2025 السبت ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

نقيب الموسيقيين يطمئن جمهور محمد منير على صحته

GMT 07:13 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

نانسي عجرم تتألق بصيحة الجمبسوت الشورت

GMT 08:23 2025 السبت ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج​ اليوم السبت 08 نوفمبر/تشرين الثاني 2025

GMT 12:00 2025 السبت ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

روبوت يرسم خرائط ثلاثية الأبعاد في ثوانٍ لأماكن الكوارث

GMT 13:38 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

غارة إسرائيلية تستهدف جنوب لبنان وتودي بحياة مواطن

GMT 08:34 2025 السبت ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

تتأثر الأبراج الفلكية على طريقة تعبيرها عن المشاعر

GMT 22:37 2025 السبت ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

إسرائيل تبدأ تقليص استدعاءات جنود الاحتياط

GMT 15:41 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

يامال يرفض المقارنات بميسي ويركز على تحسين أداء الفريق
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab