الاستزمان

الاستزمان

الاستزمان

 العرب اليوم -

الاستزمان

بقلم:مأمون فندي

الاستزمان هو الهيمنة على محور الزمن، في حين أن الاستعمار التقليدي كان هيمنة على المكان وأهله وموارده. فعلى مدى القرون الماضية، عُرف الاستعمار كفعل مادي يرتبط باحتلال المكان والسيطرة على موارده، بالقوة العسكرية أو بالهيمنة الاقتصادية والسياسية المباشرة. وقد ترسخ هذا الفهم في الفكر السياسي والتاريخي خلال العصر الكولونيالي، وحتى في أدبيات ما بعد الكولونيالية، حيث كانت الأرض والمكان مسرح الصراع، وتُقاس قوة الدول بقدرتها على بسط نفوذها على الجغرافيا والتحكم في الموارد.

أما الاستزمان، فهو شكل جديد من الاحتلال يهيمن على زمن الأمم: ماضيها (عبر سرقة التراث والآثار أو تشويهها)، حاضرها (من خلال القوة الناعمة)، ومستقبلها (عبر الديون أو الحصار الاقتصادي). وهو نتيجة التحولات المعاصرة في النظام العالمي، حيث لم يعد الاحتلال فجاجةً كالاستعمار القديم، بل صار أكثر خفاءً وتعقيداً، يتجاوز المكان ليطول الزمن نفسه.

في هذا السياق، يمكن فهم «استعمار الزمن» باعتباره امتداداً للاستعمار التقليدي، لكنه يستبدل التاريخ بالجغرافيا، والسنوات بالأرض، والهيمنة عبر الديون والآليات المالية طويلة الأمد بالاحتلال العسكري. هذه الآليات تعمل على محور الزمن، فتجعل القرارات السياسية والاقتصادية مرهونة بأفق زمني خارج إرادة الأمة.

إذا كانت الديون ارتهاناً للزمان، فإن الحصار الاقتصادي أداة إضافية للتحكم فيه. فالعقوبات، سواء كانت مالية أم سياسية، لا تستهدف الموارد الحالية فقط، بل تقيد مسار التطور المستقبلي، وتجبر الدول على إعادة ترتيب أولوياتها بما يبطئ أو يسرع إيقاعها الداخلي. فإذا كانت القروض الطويلة الأجل استعماراً للزمن، فإن الحصار يكثف هذا الاستعمار، إما عبر تسريع أزمة الموارد وإجبار الأمة على قرارات عاجلة، وإما عبر تعطيل التنمية، وتأجيل أفق التقدم.

الاستزمان ليس مجرد استعارة شعرية، بل حقيقة تتجلَّى في قيود تمتد إلى ما بعد الحاضر، فتجعل الأجيال القادمة سجينة زمن الآباء المقيد. ففي تجارب فك الاستعمار، من الهند إلى مصر، استطاعت الأمم استعادة مواردها بعد التحرر، لكن التحرر من الاستزمان أصعب؛ إذ يشبه الدخول في دوامة زمنية لا مخرج منها. هنا يصبح المستقبل مثقلاً بالتزامات طويلة الأمد، ويتحول إلى حق انتفاع للحاضر على حساب أجيال لم تولد بعد، مع القيود التي يفرضها الحصار على النمو والاستثمار، وبالتالي على الزمن الإنتاجي للأمة.

من هنا، أرى أن دراسة الاستعمار في بعده المكاني وحده غير كافية؛ فالمكان والزمان بعدان متكاملان لتحليل الظواهر السياسية: المكان إطار تُدار فيه الموارد، وتُرسم الحدود الجغرافية للنمو، أما الزمان فهو البنية التي تُقاس عليها القرارات، والإطار الذي يُحدد خط التطور الممكن أو الممنوع، فحين يحتل المستعمر المكان يفرض قيوداً على الحاضر؛ وحين يحتل الزمن، عبر الدين أو العقوبات، فإنه يصادر إمكانات المستقبل، ويحد من خياراته قبل أن تأتي.

وتبرز هنا أهمية مفاهيم مثل «تمطيط المفهوم» و«سلم التجريد» لجيوفاني سارتوري، الذي يحذر من توسيع مفهوم الاستعمار ليشمل كل أشكال السيطرة من دون تمييز، ما قد يفقده الدقة التحليلية. يمكن النظر إلى الاستعمار على أنه مستوى عالٍ من التجريد يشمل السيطرة على المكان والزمان معاً، بينما يمثل استعمار المكان واستعمار الزمن مستويات أدنى، لكل منها سماته الخاصة. وعندما يُضاف الحصار الاقتصادي، يتحول الاستزمان إلى أداة مزدوجة: تقييد للمستقبل والتحكم في إيقاع التنمية.

خطورة الاستزمان والحصار الاقتصادي أنهما استعمار ناعم، لكنه عميق الجذور؛ فهو لا يفرض وجوداً عسكرياً ظاهراً، بل يعيد برمجة المستقبل عبر الحاضر، مستنداً إلى أدوات مالية واقتصادية وسياسية. وبهذا يصبح المسار التاريخي للأمة محكوماً بإرادة خارجية، تتحكم في خيارات الزمن: متى تتسارع التنمية، ومتى تتعطل، ومتى يُستنزف المستقبل لصالح الحاضر. يمكن تسميته أيضاً «احتكار الأفق» — أي السيطرة على المجال الاحتمالي للمستقبل بأدوات زمنية أو مالية أو اقتصادية.

الوعي بالاستزمان والحصار الاقتصادي ضرورة نظرية وعملية، ليس فقط لفهم القيود على الحاضر، بل أيضاً لاستعادة القدرة على رسم المستقبل. وكما أن التحرر من الاستعمار المكاني تَطَلَّبَ مقاومة سياسية وعسكرية، فإن التحرر من الاستزمان يتطلب مقاومة معرفية واقتصادية وسياسية، ورؤية طويلة المدى ترفض بيع الأجيال القادمة مقابل مكاسب آنية. فالزمن، مثل المكان، يمكن أن يُحتل، لكن استعادته أصعب لأنه غير مرئي، ولا يُقاس بالحدود بل بالآفاق التي تُفتح أو تُغلق أمام الشعوب.

إن متاهة الزمان التي دخلتها بعض الأمم يصعب الخروج منها إلا بإدراك معاني الاستزمان، وابتكار سبل التحرر منه، وهي متاهة قد تبدو خيالية مثل متاهة المبدع الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس.

arabstoday

GMT 11:54 2025 الإثنين ,18 آب / أغسطس

ما غاب عن خطاب نعيم قاسم…

GMT 10:35 2025 الإثنين ,18 آب / أغسطس

متلازمة الصراعين

GMT 10:27 2025 الإثنين ,18 آب / أغسطس

ألاسكا: مخاوف الإقليم على حالها

GMT 10:23 2025 الإثنين ,18 آب / أغسطس

«الكومبارس»... ليست تهمة

GMT 10:21 2025 الإثنين ,18 آب / أغسطس

فى مديح «العُسر»... و«التصوُّف»

GMT 10:19 2025 الإثنين ,18 آب / أغسطس

كلية طب الفاتيكان!

GMT 10:17 2025 الإثنين ,18 آب / أغسطس

زمن غير الزمن!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الاستزمان الاستزمان



سيرين عبد النور تتألق بمجوهرات فاخرة وأزياء أنيقة في مختلف المناسبات

بيروت ـ العرب اليوم

GMT 06:48 2025 الأحد ,17 آب / أغسطس

طوفان الكراهية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab