حدود التوسعية بين الطعام واللغة

حدود التوسعية بين الطعام واللغة

حدود التوسعية بين الطعام واللغة

 العرب اليوم -

حدود التوسعية بين الطعام واللغة

بقلم:مأمون فندي

في حفل عشاء صغير بواشنطن، دار الحديث حول إمكانية التعايش بين العرب والإسرائيليين، أو اندماج إسرائيل بالمنطقة في سياق ما يُسمّى «الديانة الإبراهيمية». وكما هي عادة أحاديث العشاء، كان النقاش ناعماً، يبحث عن القواسم المشتركة حتى لا تُفسد الجلسة. وحين جاء دوري للكلام، بعد أن استمعت إلى كثير من المبالغات بشأن قدرات إسرائيل العسكرية ورغبتها المفترضة في السلام رغم ما تملكه من قوة، كان معظم الحضور يتوقعون مني إما تحليلاً سياسياً بحكم المهنة، وإما شكوى من ظلم الاستعمار لمنطقتنا. كنت أرى الردود الجاهزة في عيونهم. كان الوقت المخصص لي عشر دقائق، تزيد أو تنقص.

بدأت حديثي بتأكيد أن أدوات العنف وحدها، عبر التاريخ، لم تكن كافية لتحقيق التوسع. وفي حالة إسرائيل يصبح التوسع مستحيلاً بحكم منطق التاريخ، وتاريخ الثقافات، والأنثروبولوجيا، بل حتى الإثنوغرافيا. فليس في أي من هذه المسارات ما يمنح إسرائيل القدرة على التوسع المزعوم. وقلت أيضاً إن قلق العرب من هذا التوسع هو قلق غير مبرر. كان جوهر أطروحتي أن الطعام واللغة والثقافة هي أعمدة التوسع الحضاري، وأن لغة إسرائيل وطعامها وديانتها غير قابلة للتوسع.

من زاوية ثقافية وأنثروبولوجية صِرفة، تكمن الإجابة عن سؤال قدرة الإسرائيليين على التعايش لا في توسيع المستوطنات التي تبقى، بطبيعتها، مغلقة على أهلها، بل في حدود أخرى لا تحظى بالاهتمام الكافي رغم جوهريتها: حدود اللغة وحدود الطعام. هذان الحدّان يشكلان سقفاً لأي حضارة ذات مشروع توسعي. وإذا ناقشناهما بعمق فسنجد أن المشروع الإسرائيلي غير قابل للتوسع، رغم ما يشغَل البعض من أوهام حول ذلك. فللتوسع شروط لا تنطبق على إسرائيل، أولها الطعام واللغة. وفي هذا تفسير للمجاعة في غزة، لو تأملنا الأمر بعناية.

يعلمنا التاريخ أن الإمبراطوريات التي نجحت في بناء تمدد دائم امتلكت لغة جامعة، قادرة على التواصل وإدارة شؤون الشعوب المختلفة. فالإمبراطورية الرومانية لم تُبنَ بجدار من السيوف فقط، بل بنت شبكة من الطرق اللغوية، وكانت اللاتينية لغة الإدارة والقانون والثقافة. والمسيحية توسعت حين فتحت لغتها على اليونانية ثم اللاتينية، لتصبح لغة مشتركة بين شعوب الإمبراطورية. ولم تكتفِ بذلك، بل فككت القيود الدينية على الطعام، فصار الانتشار لغةً وطعاماً وثقافة. وكذلك الإسلام لم يكن مجرد قوة عسكرية، بل لغة عربية قوية، وديناً جعل الطعام أكثر سماحاً، مما ساعد على تقبّل دعوته. ولم يكن الإسلام وحده، بل كانت العروبة والبداوة، الرجل والجمل والنجوم، وذلك الفضاء الرحب الذي كان يمثّل رؤية البدوي لنفسه وللعالم.

في المقابل، العبرية التي تستند إليها إسرائيل اليوم لغة ضيقة الانتشار، محصورة في مجتمع لا يتجاوز تسعة ملايين نسمة حول العالم، ولا تملك نفوذاً ثقافياً يجعلها لغة تواصل بين شعوب المنطقة. أما الكوشر، نظام الطعام اليهودي، فهو نظام صارم ومقيّد، يجعل المائدة الإسرائيلية مغلقة، يصعب على الآخرين الاختلاط بها أو الاندماج معها. لذلك لا يرى الإسرائيليون في فكرة تجويع الفلسطينيين ذنباً، فالطعام عندهم نظام مغلق لا أداة تواصل حضاري. الطعام في الثقافات ليس مجرد غذاء، بل هو بناء لجسور الثقة والعهد، كما في ثقافة كسر الخبز عند العرب، أو تعبير «بِينَّا عيش وملح». وكان الملح أساسياً في النظام القديم، فالسيطرة عليه كانت تعني القوة، كما شرح مارك كيرلانسكي في كتابه «الملح وتاريخ العالم»، حيث بيّن أن الملح كان سبباً في نشوء طرق التجارة، وإقامة مدن، وإطلاق حروب، وفرض ضرائب. ومع أن المائدة اليهودية تعتمد على الملح، إلا أنها مائدة مغلقة لا تبحث عن بناء جسور بين الشعوب. حين تُغلق المائدة على قواعد صارمة، يصعب أن يتوسع تأثيرها الثقافي، ويصعب معها الإحساس بالآخر الجائع. ففي الانغلاق تبلُّد للإحساس.

هذا الانغلاق في الطعام واللغة يتجلَّى مادياً في الجدار العازل بين إسرائيل والأراضي المحتلة، وفي فكرة المستوطنات بوصفها جيوباً مطهَّرة عرقياً. إسرائيل لا تسعى إلى دمج السكان ثقافياً أو لغوياً، بل تعتمد على المستوطنات المغلقة بوصفها جيوباً منفصلة لغوياً وغذائياً. وهذه ليست سياسة توسع حضاري، بل سياسة فصل وسيطرة أمنية. لا لغة واحدة توحّد الجميع، ولا مائدة مشتركة تجمعهم، بل جدران وحدود مشددة، مما يكرّس الانقسام ويحُول دون التعايش الحقيقي. وهذا هو العائق الأكبر أمام فكرة الدولة الواحدة الديمقراطية لشعبين. إسرائيل، كما لغتها وطعامها، تريد دولة يهودية لليهود فقط، ومن هنا أكدت في مقالات سابقة ضرورة قيام الدولة الفلسطينية بوصفها حاجزاً استراتيجياً.

الطعام وطريقة طهيه أمران جوهريان في فهم الحضارات توسعاً أو انكماشاً. في كتابه «النيئ والمطبوخ»، يطرح كلود ليفي-ستروس فكرة أن الانتقال من الطعام النيئ إلى المطبوخ يمثّل خطوة رمزية في تطور الحضارة؛ حيث يعكس الطهي تدجين الطبيعة وإخضاعها للثقافة، لكنه أحياناً يحد من آفاقها. يوضح ليفي-ستروس أن المجتمعات تستخدم الطعام للتعبير عن العلاقات الاجتماعية ورسم الحدود الثقافية. فالطعام النيئ يرمز إلى الطبيعة والفوضى والاتساع، في حين يرمز المطبوخ إلى النظام والثقافة وأحياناً الانغلاق.

هناك من الأنثروبولوجيين من رسم ملامح العالم بين قطبَي «الملح والسكر»، استعارة للأنظمة الغذائية والاقتصادية التي نشأت حول مواد غذائية أساسية شكّلت ثقافات بأكملها. كان الملح مادة استراتيجية لحفظ الطعام وضبط المجتمعات، فيما كان السُّكر رمزاً لحضارات الإنتاج والترف والاستعمار. وما قصة العبودية في الكاريبي إلا قصة السكر.

إذا أردنا فهم المستوطنات في الضفة الغربية والمجاعة في غزة، فلا بد أن نبدأ من فلسفة الطعام الإسرائيلي مثالاً على مجتمع «المطبوخ المغلق»، الذي يُعيد إنتاج نفسه داخل حدود مغلقة لا تسمح بتداخل ثقافي أو لغوي مع جيرانه، مما يعمّق الفجوة بدل بناء جسور التعايش، ويفتقر إلى الإحساس بالآخر، بخلاف الثقافة الإسلامية التي تحتقر من بات شبعان وجاره جائع. وذلك فارق جوهري بين ثقافة متواصلة وأخرى تبرر القطيعة.

ومن منظور الطعام واللغة، يمكن القول إن بناء سلام مستدام على قاعدة القوة العسكرية وحدها أمر مستحيل. فالسلام يحتاج إلى مشاركة ثقافية، إلى لغة جامعة، ومائدة مفتوحة يتشارك فيها الجميع. إسرائيل اليوم مشروع قوة بلا توسع ثقافي، ومشروع حدود بلا رسالة، ومشروع طعام في مستوطنات غلاف غزة، ومشروع جوع خارجها. وهذا ما يفسّر استمرار الصراع وتعقيداته، وانعدام الإحساس بالآخر.

كانت تلك مشاركتي في ذلك العشاء الوَاشنْطني. لا أزعم أنها القول الفصل، لكنها غيّرت دفة الحوار ومنحته طبقات بعضها فوق بعض، كما طبقات البصلة، حيث الأساس أن أدوات العنف وحدها وأحاديث الاستراتيجيات الكبرى لن تقدم حلولاً لأزمات المنطقة إذا أغفلنا البعد الإنساني. فإذا كانت هناك إبراهيمية فلا بد أن تكون لغة مشتركة ومائدة مشتركة. أما فرضها بالقوة فهو وقود لصراعات جديدة قد تكون أكثر عنصرية وأشد فتكاً.

 

arabstoday

GMT 10:14 2025 الأربعاء ,10 أيلول / سبتمبر

القلق من... وعلى فرنسا

GMT 10:10 2025 الأربعاء ,10 أيلول / سبتمبر

العودة إلى دمشق

GMT 10:04 2025 الأربعاء ,10 أيلول / سبتمبر

قراءة الواقع اليوم مع إسرائيل

GMT 09:57 2025 الأربعاء ,10 أيلول / سبتمبر

لماذا كفّ اللبنانيّون عن النقاش؟

GMT 09:54 2025 الأربعاء ,10 أيلول / سبتمبر

أوسلو... قبل وبعد حرب نتنياهو

GMT 09:51 2025 الأربعاء ,10 أيلول / سبتمبر

البرازيل: دور متصاعد على صعيد الطاقة العالمي

GMT 09:48 2025 الأربعاء ,10 أيلول / سبتمبر

فلسطين المستقلة ومستقبل الأمم المتحدة

GMT 09:39 2025 الأربعاء ,10 أيلول / سبتمبر

حيازة السلطة ووهم الخلود

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حدود التوسعية بين الطعام واللغة حدود التوسعية بين الطعام واللغة



داليدا خليل تودّع العزوبية بإطلالة بيضاء ساحرة وتخطف الأنظار بأناقة لا تُنسى

بيروت ـ العرب اليوم

GMT 21:52 2025 الثلاثاء ,09 أيلول / سبتمبر

7 علامات يومية تنذر بنوبة قلبية
 العرب اليوم - 7 علامات يومية تنذر بنوبة قلبية

GMT 09:51 2025 الأربعاء ,10 أيلول / سبتمبر

البرازيل: دور متصاعد على صعيد الطاقة العالمي

GMT 15:44 2025 الثلاثاء ,09 أيلول / سبتمبر

أزمة النووي الإيراني.. أي مسار سنشهد؟‎

GMT 17:42 2025 الثلاثاء ,09 أيلول / سبتمبر

إلغاء 100 رحلة جوية بعد إضراب في "إير فرانس"

GMT 17:14 2025 الثلاثاء ,09 أيلول / سبتمبر

جاريث بيل يشارك في ودية بعد عامين من اعتزاله

GMT 21:52 2025 الثلاثاء ,09 أيلول / سبتمبر

7 علامات يومية تنذر بنوبة قلبية

GMT 17:16 2025 الثلاثاء ,09 أيلول / سبتمبر

تعادل سلبي بين مصر وبوركينا فاسو في الشوط الأول
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab