سبتمبر شهر أمى

سبتمبر... شهر أمى

سبتمبر... شهر أمى

 العرب اليوم -

سبتمبر شهر أمى

بقلم : فاطمة ناعوت

سبتمبر هو سِرّنا الخاص الذي يجمعنى بأمى. فيه وُلدتُ، وفيه وُلدَتْ، وفيه رحلتْ لتتركنى وحيدةً في هذا العالم المزدحم. صار الشهر صندوقًا مُلغزًا، نصفه مضاءٌ بشموع الميلاد وأناشيد طفولة، ونصفه الآخر معتمٌ بشارات الحداد وبياض الكفن. كلما أقبل خريفُ سبتمبر، أشعرُ أننى أضع قدمى في ممرّ غامض، جدرانه مشبعة برائحة الحزن والفرح معًا، كأن القدر قرّر أن يربط حياتى بحياة أمى بخيط واحد، مشدود مبهج ومؤلم، اسمه سبتمبر.

في الخريف، تخلعُ الأشجارُ ثوبَها القديم، وتُهديه للأرض. فتكتسى الأرضُ بثوب فاتن من الذهب مغزول بأوراق الشجر. أحب سبتمبر الذي يحمل صوت أجراس المدارس وشقشقة العصافير في الصباح، ورائحة حقائب المدرسة الجديدة، وهدايا عيد ميلادى. لكنه كما يحمل لى الفرح، حمّلنى سلّة ضخمة من وجع فقد أمى، أحيانًا لا أقوى على حملها، فتسقط من فوق رأسى، وأنحنى لأرفعها من جديد، مثل «سيزيف» يحمل صخرته إلى الأبد.

كانت أمى امرأةً استثنائية، جميلة كأميرة وصلبة كصخرة. جمالها الخارجى كان ستارًا يخفى حزمًا وجدّيةً تُرهب القلوب. كانت تقول إنها تبنى لمصر هرمين: طبيبًا ومهندسة. لم ترَ النجاح والتفوق رفاهية، بل واجبًا وطنيًا تجاه مصر التي أنجبت العظماء. وفى معجمها لا مكان لدرجة ناقصة؛ فالتسعة والتسعون في المائة ليست إلا جرحًا في الكمال، فتظلُّ تتساءل عن الدرجة الناقصة أين ذهبت؟ ورثتُ عنها برج العذراء بكل هوسه بالإتقان ونشدان الكمال الذي لا يأتى، ذلك الهاجس الذي يحرق صاحبه ويؤلم مَن حوله، لكنه يهب الإنسانَ شعورًا جادًّا بالمسؤولية وعقلية نقدية لا تساوَم.

رحيلُ أمى «سهير» كان الامتحان الأصعب في حياتى الزاخرة بالامتحانات والشهادات. يوم الغُسل، وقفتُ أمام جسدها الُمسجّى، والنساء يسكبن فوقها ماء زمزم الذي حملتُه لها من «مكة المكرمة» كما أوصتنى بأن تُغسَّل به. لم أستوعب أن هذى السيدة القوية التي لم تنحنِ يومًا لقمع أو ظرف، تستسلم الآن لأيادى غريبة تغسلها. همستُ لها: «قومى يا ماما!» ولم تجب. كنتُ أبحث في عينيها البُنيتّين نصف المغمضتين عن ومضة تمرد، عن إشارة رفض، عن الخوف علىّ بعدما تمضى كما كانت تردد دائمًا. لكن لم يكن هنا إلا الصمت، ودموعى. وحين مددوا الكفن فوق وجهها، شعرتُ أن الحياة تنهار. مددت يدى لأزيح القماش، صارخةً: «دعوا وجهها لى!» لكنهن دفعننى بعيدًا.

اختفاءُ وجهها في بياض الكفن أيقظ داخلى جُرح طفولتى القديم. أول يوم لى في المدرسة. أجلسَتنى في الفصل، ثم خرجت ولوّحت لى من النافذة المطلة على الكوريدور، واختفى وجهها. لم أستوعب كيف تتركنى أمى وتمضى. صرختُ وركضتُ خارج الفصل، فعادت أمى وجلست جوار النافذة. وكنتُ أنهض بين الحين والآخر أنظر من النافذة لأتأكد أنها هناك، حتى أغلقوا النافذة في اليوم الثالث لأعتاد غيابَها. الكفن في لحظة الوداع كان نافذة أخرى أُغلقت في وجهى، وأعادتنى طفلةً تبكى اختفاء وجه أمها.

في «مسجد النور» بالعباسية، يوم الجناز، اقتربت منى زوجة أخى وقالت: «ماما برا في العربية مش قادرة تدخل، عايزة تشوفك». طِرتُ من الفرح، وركضتُ بلهفة لأستقبل أمى التي عادت لتمسح دموعى. بحثتُ عنها في الوجوه خارج المسجد، لكننى لم أرها. كانت تقصد أمها هي. أما أمى، فقد مضت إلى حيث تمضى الأمهاتُ ولا يعُدن. رجعتُ إلى المسجد منهارة، والناس يربتون على كتفى، ولا يعرفون أن كتفى لا يقبل يدًا سوى يدها.

إلى اليوم، كلما شعرتُ بالخوف، أدق رقم هاتفك، وأنا موقنة أن الصوت الآلى سيجيب: «هذا الرقم غير موجود بالخدمة». أضع الهاتف جانبًا. ثم أشغّل «سورة غافر» بصوت «المنشاوى»، شيخك المفضل. وعند الآية: «ثم يُخرجكم طفلا»، أراكِ في مخيلتى تبتسمين، وتضعين يدك على بطنى الذي يحملُ طفلى. صوت الشيخ يملأ الغرفة، ودموعى تملأ عينى، كأن الآية لم تُنزل إلا لى.
■ ■ ■
(أخافُ اللونَ الأبيضَ)
ماذا أعملُ/ بالثلجِ عشّشَ في أركانِ البيت/ ماذا أفعلُ بقِطَّتِكِ البيضاء/ تُقعى في غرفة المعيشة صامتةً/ تنظرُ نحو بابِ البيت/ تَرْجُفُ أذناها/ مع كلِّ وقعِ قدمٍ/ على درجات السُّلّم/ كلَّ خطوةٍ قادمة تظُنُّها أنتِ/ مثلماأظنُّ أنا./ ماذا أفعلُ بصورِ العائلة على الحائط الأبيض؟/ بالأبوابِة البيْضِ مغلقةٍ أمام عينيّ وقلبي/ بستارةٍ بيضاءَ ساكنةٍ لأن الشيشَ مُقفَل ولا هواء؟/ ماذا أفعلُ بالسيارةِ البيضاء/ التي لم تعدْ واقفةً تحت البيت؟/ ماذا أفعلُ بخُصلةٍ من شَعرِكِ بيضاءَ عالقةٍ بأسنان المشْط؟/ بشالِ حريرٍ أبيضَ/ جلبتُه لك من مراكش؟/ بقطرةٍِ من ماءِ زمْزمَ عالقةٍ في كأسِ غُسْلِك؟/ ماذا أفعلُ بوحشتى وخوفى؟/ هل أبيعها وأشترى أمًّا لا تتركنى وتمضى؟

arabstoday

GMT 15:25 2025 الجمعة ,12 أيلول / سبتمبر

عصا البرازيل التى تتكئ عليها!

GMT 14:58 2025 الجمعة ,12 أيلول / سبتمبر

“بيزنس” ترامب في أوكرانيا وغزّة

GMT 14:55 2025 الجمعة ,12 أيلول / سبتمبر

بين بشير الجميّل وأحمد الشرع

GMT 14:52 2025 الجمعة ,12 أيلول / سبتمبر

السّلاح باقٍ والكلّ خائفون… إلّا إسرائيل!

GMT 14:51 2025 الجمعة ,12 أيلول / سبتمبر

سوريا: “الإخوان” بين الإراحة والاستراحة!

GMT 14:48 2025 الجمعة ,12 أيلول / سبتمبر

صحوة سنّيّة متجدّدة… في ظروف إقليميّة مختلفة!

GMT 14:45 2025 الجمعة ,12 أيلول / سبتمبر

جنون إسرائيلي… في ظلّ غياب أميركي

GMT 14:42 2025 الجمعة ,12 أيلول / سبتمبر

سؤال الكفاءة وسؤال الشجاعة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سبتمبر شهر أمى سبتمبر شهر أمى



الجرأة تلتقي بالكلاسيكية النجمات يتألقن بتصاميم تحاكي الأنوثة والفخامة

بيروت ـ العرب اليوم

GMT 11:10 2025 الجمعة ,12 أيلول / سبتمبر

أفضل 10 جزر في المالديف لعطلة شاطئية لا تُنسى
 العرب اليوم - أفضل 10 جزر في المالديف لعطلة شاطئية لا تُنسى

GMT 12:45 2025 الجمعة ,12 أيلول / سبتمبر

خمسة فيتامينات ضرورية لتعزيز نمو الشعر وكثافته
 العرب اليوم - خمسة فيتامينات ضرورية لتعزيز نمو الشعر وكثافته

GMT 21:52 2025 الثلاثاء ,09 أيلول / سبتمبر

7 علامات يومية تنذر بنوبة قلبية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab