كرامةُ المعلِّم ـة

كرامةُ المعلِّم... ـة

كرامةُ المعلِّم... ـة

 العرب اليوم -

كرامةُ المعلِّم ـة

بقلم: فاطمة ناعوت

فى «كوريا الجنوبية»، يُنظَر إلى المعلّم بوصفه حجر الأساس فى بناء الأمة، ويُعامل باحترام مجتمعى وإجلال، لأن التعليم هناك ليس خدمة، بل مشروع وطنى. وفى «اليابان»، يُدرَّب الأطفالُ على الانحناء لمعلميهم قبل تعلّم الأبجدية. فى جميع الدول التى وثبت علميًّا واقتصاديًّا، يُعامَل المعلّمُ بإجلال كونه «صانعَ مستقبل، وصانع حضارة». المعلّمُ هو أوّلُ ضابطٍ فى جيش القيم. وأوّلُ قاضٍ فى محكمة الضمير. وأوّلُ فنانٍ يرسمُ على لوحِ الطفولةِ ملامحَ الإنسان.

هكذا تربينا منذ طفولتنا على توقير المعلم. وكنتُ، وأنا طالبة فى «هندسة عين شمس» ألتقى فى الطريق مصادفةً بإحدى معلماتى فى مدرستى الابتدائية القريبة من الحرم الجامعى. فأسرعُ بخطاى وأنحنى لها، وأقبّل جبينها، ولولا الحياء لقبّلتُ يدَها. وأحيانًا يهاتفُنى معلّمُ الرياضيات فى مرحلتى الثانوية ليناقشنى فى أمرٍ ما، فإذا بادرنى بكلمة: «أستاذة فاطمة»، أقاطعه فورًا: «لا من فضلك! غير مسموح بتبادل الأدوار. لا أستاذَ هنا سواك!».

وحدَه من علّمك الحرفَ والكلمةَ والمعادلةَ والحكمة والقيم والأخلاق، يمتلكُ مفتاح قلبك ويحقُّ له الدخولُ دون استئذان، فهو أحدُ الذين شكّلوا وعيَك لكى تتعرّفَ على العالم وتصيرَ مَن أنت عليه الآن. جميعُ مَن علّمونى، لهم علىّ دَينٌ لا ينقضى أجلُه، ولا يُستوفَى. ولذا، فإنّ أىّ اعتداءٍ على «معلّمٍ»، وإن كنتُ لا أعرفه، هو طعنةٌ نجلاء فى قلبى، وفى قلبِ الوطن. فالمعلم هو شرفُ الدولة، وكرامتُه مسألةُ أمن قومى. لأن العلمَ هو المِعولُ القادرُ على هدم الظلام والرجعية والخرافة، وهو صانعُ الرفاه. انظر حولك لترى تجلياتِ العلم وثمارَه فى كل ما تقع عليه عيناك. لولا العلم ما قرأتَ كلماتى فى جريدة صنع طابعتَها وأوراقَها العلمُ، بنظارةٍ صنع زجاجَها وقياساتِها العلمُ، وأنت جالسٌ على مقعدٍ صنعه العلم، فى بنايةٍ صنعها العلمُ، ولا تنتهى الدائرة.

هذا المقال ليس «تحيةً» للمعلّم. فلم يحن بعدُ «اليومُ العالمى للمعلم» الذى يحلُّ يوم ٥ أكتوبر من كل عام. لكنه «اعتذارٌ» عن واقعة موجعة تخزُ القلبَ بشوكة الألم على وطن صنع أول حضارة فى التاريخ تأسست على العلم وتوقير المعلم. فى حضارتنا المصرية القديمة، احتلَّ المعلمُ مرتبة عالية فى هرم السلطة الفكرية والسياسية. لم يكن مجرد ناقل للمعرفة، بل حارسٌ لعقد الحضارة، حاملٌ مسؤولية صوغ القوانين، وحفظ الثقافة، وغرس القيم. لهذا لا يُقبَل أن يُهان معلمٌ فى دولة أجلّت العلمَ مثل مصر. فما بالك حين تُهانُ «معلّمةٌ»؟! هنا تُضافُ إلى جريمة إهانة المعلم، جريمةُ إهانة المرأة، فى دولة جعلت من المرأة ملكةً وربّة للفضيلة والعدالة والضمير، وجعلت لقانون الأخلاق الأول فى التاريخ اسم امرأة: «ماعت»، ترى صورتها محفورة على جدران محاكم العالم: سيدة جميلة معصوبة العينين تحمل ميزان العدالة والضمير.

الواقعةُ مخيفة: التعدى على معلمة أثناء أداء دورها التربوى!! وممن؟ من وليّات الأمور! ربما ليست الواقعة الأولى من نوعها بكل أسف ومرارة، لكنها الواقعة الموثقة بفيديو صوت وصورة منتشر على صفحات سوشيال ميديا. المعلمة المحترمة رفضت السماح بالغش فى لجنتها، فانقضت عليها أمهاتُ الطلاب وركضن خلفها يردن الفتك بها! ولولا تدخل الأمن لافترسنها! لن أسأل كيف سُمح للأمهات بدخول المدرسة أثناء الامتحان ولا كيف صعدن إلى فصول اللجان، فتلك أسئلة أمنية يباشرها التحقيق. لكن السؤال هو: كيف لأمهات فضليات يرجون لأبنائهن مستقبلا مشرقًا، وهنّ لا يحترمن مَن يقومون على العملية التعليمية التى تصقل عقول أبنائهن؟! شىء لا يُصدق! لكن الأكثر ألمًا هو أن تلك الأمهات «الغافلات»، لكيلا أستخدمُ لفظًا غيرَ مهذب، لم يكتفين بالمطاردة والملاحقة ومحاولة الاعتداء الجسدى على المعلمة، بل تعدين عليها باللفظ الجارح والسباب المهين، وأطلقن فى وجهها لعنات طائفية تزدرى دينها؛ كونها مسيحية!.

المشهد ينتمى إلى مسرح العبث والكوميديا السوداء المخيفة. تعالوا نحلّله. المعلمة رفضت السماح بالغش. والغشُّ لعنةٌ تصيبُ مستقبل المجتمع فى مقتل. فالطبيب الفاشل والمهندس الفاشل هما نتاجُ الغشّ. وفى أدبياتنا الإسلامية: «مَن غشّنا ليس منّا». وبناء عليه فهذه المعلمة يجب أن تُكرّم وتُمجد لأنها منعت آفة أخلاقية ومجتمعية وتربوية ودينية. لكنها لم تُكرم بل لوحقت يُرادُ النيلُ منها جسديًّا! وممن؟ من أمهات المفترض لهن أن يحرصن على تعليم أبنائهن وتهذيبهم!.

جهات التحقيق تباشر الواقعة المشينة، وقيل إن المعلمة الفاضلة تنازلت عن الشكوى ربما لئلا تثير الفتن أو تجنبًّا لتداعيات سخيفة تهدد أمنها أو لأى سبب كان. لكننا نحن المجتمع المصرى، لن نتنازل عن حقها وحق كل معلم شريف يبرّ بقسم الحفاظ على القيم، ونطالب بحق الكرامة العامة التى تُخدشُ لو مسَّ المعلمَ ما ينالُ من كرامته. ومن جانبى أقبّلُ جبينَ تلك المعلمة الجميلة، وأعتذرُ لها.

 

arabstoday

GMT 14:16 2025 الثلاثاء ,22 تموز / يوليو

سوريا... مشروع «مارشال» العربي

GMT 14:14 2025 الثلاثاء ,22 تموز / يوليو

عقلاء وحكماء في بطانة صانع القرار

GMT 14:13 2025 الثلاثاء ,22 تموز / يوليو

الجُوع في غزة

GMT 14:12 2025 الثلاثاء ,22 تموز / يوليو

العدوان على سوريا.. أهدافه وما بعده!

GMT 14:11 2025 الثلاثاء ,22 تموز / يوليو

الملف النووى الإيراني.. إلى أين؟‎

GMT 05:06 2025 الثلاثاء ,22 تموز / يوليو

ضاع في الإسكندرية

GMT 05:04 2025 الثلاثاء ,22 تموز / يوليو

طوفان الذهب وحيرة «السلَق»

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كرامةُ المعلِّم ـة كرامةُ المعلِّم ـة



ياسمين صبري تختار الفستان الأسود الصيفي بأسلوب أنثوي أنيق يبرز أناقتها وجاذبيتها

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 13:06 1970 الثلاثاء ,22 تموز / يوليو

انتشار حفلات الطلاق في المغرب بـ"كعكة سوداء"
 العرب اليوم - انتشار حفلات الطلاق في المغرب بـ"كعكة سوداء"

GMT 15:59 2025 الأحد ,20 تموز / يوليو

لنطرد الداعشي الصغير من دواخلنا
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab