بقلم : فؤاد مطر
منذ 5 أشهر وعلى مدى فترات متقطعة، يعيش العالم من القُطب إلى القُطب، ومن دون استثناء دولة من دوله، ما يجوز تسميته «هستيريا الذهب».
تناسى «أبناء الله» التبدل غير المسبوق للمناخ بهذه الحدة، فباتت أشهر الخريف والشتاء وكأنما هي امتداد لشهر الصيف، وباتت صلوات الأشقاء في دول إسلامية أمراً موجباً. حرارة غير مألوفة تفتك بالبشر حول العالم، وفاة كل دقيقة، حرائق تلتهم ما هو أخضر من الأرض التي أثقلها الإصرار على الحروب وإنزال الصواريخ، بدل إروائها بالماء لكي تعطي من الثمار والبقول ما يخفّف من وطأة المجاعة، حتى لا يصيب بعض الدول بفعل الانقلابات العسكرية بأهون السبل ما أصاب السودانيين بعد الغزيين من أهوال الجوع والعطش والأمراض، ناهيك بالتهجير والتدمير الذي لا يُقْدِم عليه سوى المخالفين للشرائع السماوية. ولقد تمددت موجة «هستيريا الذهب» رغم تحذير أهل العِلْم والاختصاص المنشغلين بالأبحاث على أنواعها من انفجار سيدمر الأرض «بفِعل وحش ضخم نائم يدعى الثقب الأسود، يمتلك كتلة تعادل 4.3 مليون مرة كتلة الشمس ويبلغ قطره نحو 24 مليون كيلومتر»، وكذلك الجفاف الذي أصاب مصادر المياه، حيث إن منظمة الأمم المتحدة التي لم تحسم بالتشاور أموراً إنسانية كثيرة التعقيد، استخلصت من عشرات الاستطلاعات والتقارير أن رُبع سكان العالم يفتقرون لمياه صالحة للشرب بشكل آمن، وتندرج الأزمة هذه، بنِسب متفاوتة، على دول نهرية، مثْل لبنان وسوريا والعراق والسودان، وصولاً إلى المغرب، وخصوصاً مِن هذه الدول مَن أنفق الكثير على بناء السدود، لكن الجفاف المَطري كان أشد قسوة، حيث إن هذه السدود لم تعد تروي بما فيه الكفاية. وفي بعض الدول النهرية، مثْل لبنان المنعَم عليه مِن رب العالمين بـ5 أنهر، باتت المياه تجارة تباع مثل النفط والمازوت... والأدوية، لأن هذه الأنهر إما ملوثة وإما مصادَرة من إسرائيل.
لمجرد أن بدأت أرقام البورصات ترفع بالتدرج السريع لصعود أسعار الذهب، فإن أكثرية الناس من الشملَيْن انشغلت بمصير «الرنان»، وشمل الانشغال الحكومات وأثرياء العالم من جهة، وكذلك الناس العاديون. ويوماً بعد آخر، ارتفع سعر السبائك كما لم يسبق ارتفاعه بهذه النسبة من الثمن. هنا بات الشمل الثري يسارع إلى شراء مزيد من السبائك، التي تضاف إلى ما في خزانته الحديدية، وبات الشمل المتوسط الحال يرسم بما يفعله بعض أفراده مشهداً غير مألوف لدى بسطاء الناس الذين رأوا في «هستيريا الذهب» ما يعزز حالهم الورقية. وهكذا باتت المرأة التي تعتز بالسوار الذهبي في معصمها وبسلسال ذهبي في عنقها تسارع إلى بيْع ما كان في المعصم وفي العنق باعتبار أن سعر الذهب ارتفع بنسبة 90 في المائة، وأن مقابل ما تبيعه ستحصل على كمية لم يسبق أن امتلكتْها من الدولارات. ونحن هنا نعرض نموذجاً أُنثوياً. أما الجانب الذكوري فكان أكثر حماسة لبيع ليرات ذهبية، أورثها الأجداد للأبناء، على أن يرثها الأحفاد من بعدهم.
لم تقتصر «هستيريا الذهب» على جماعات دون غيرها في العالم، ذلك أنها أصابت الشمل البسيط الحال في الدول المتقدمة، حتى الولايات المتحدة التي تسببت الإجراءات الحكومية في أن عشرات ألوف الموظفين من نساء ورجال تعاملوا مع الحجْب المالي عنهم بما أوجب انخراطهم في «هستيريا الذهب» يبيعون الخواتم والسلاسل والأساور والعقود مقابل الحصول على كم وفير من الدولارات، يعالجون بها أحوالهم المعيشية والعائلية، إلى أن تقرر الإدارة الأميركية إنهاء ما كانت بدأته علاجاً لميزانية متعثرة. وما تعيشه بريطانيا وفرنسا وبعض دول القارة الأوروبية لم يختلف كثيراً عن الذي يندرج ضِمن «هستيريا الذهب».
يبقى تساؤل وسْط هذه الأجواء، التي قد يبددها فجأة ولدواعٍ طبيعية أو مفتعلة، أن يستعيد الذهب أسعاره، التي واكب العالم بقطبيْه مفاجآتها على مدى الأشهر الخمسة الماضية، ولا تزال الحال على ما هي عليه. وأما التساؤل فإنه؛ متى انصراف الدول العربية، أو فلنقل بعضها، إلى إعطاء التنقيب عن الذهب كما الثروات المعدنية الموجودة في باطن أراضي الأمة الاهتمام اللازم؟ ونقول ذلك على أساس أن الدول الكبرى أو بعضها تعطي هذا الأمر أهمية أكثر من أهمية بعض الحكومات العربية. ومن دلائل الاهتمامات ما لديها من افتراضات علمية حول أن الذهب وسائر المعادن الثمينة موجودة في بواطن الأرض العربية، وأن الثقة المتوافرة موجودة بالنسبة إلى ما تحت أرض غزة، وهي الدافع الأساسي لدى الرئيس ترمب لإعطاء الاهتمام الذي قد يحوِّل اكتشاف الذهب والمعادن من باطن التربة الغزية إلى ثروة بأهمية ثروات النفط، وكتلك الثروة المأمولة من السودان بعد أن تسكت المدافع وتنخرط دول المنطقة في ما يجوز اعتباره مرحلة انتقال منطقة الشرق الأوسط من الاقتتال والصراعات إلى «شرق أوسط متقاعد»، وبما يستعيد الجانب المضيء من هذا الشرق، ولا تعود «هستيريا الذهب» التي تتواصل فصولاً على ما هي عليه، أو ما قد تصبح أعظم. ثم صبراً بعد صبْر، تعود الأقراط والسلاسل والأساور إلى النساء، اللاتي بعدما بعنها شعرن بأن أنوثتهن باتت تفتقد إلى ما هو موضع الاعتزاز به. والأهم من ذلك أن عودة وعي متدرجة ستحدُث. وكفى الجميع «هستيريا الذهب».