الشعوذة الصحافية

الشعوذة الصحافية

الشعوذة الصحافية

 العرب اليوم -

الشعوذة الصحافية

بقلم : ممدوح المهيني

 

في مقال سابق بعنوان «هل يهزم الذكاء الاصطناعي الصحافيين؟»، أشرت إلى أن ذلك قد يكون مهمة شبه مستحيلة. لا يمكن أن يجسّد الذكاء الاصطناعي جوهر العمل الصحافي. لا يمكن أن ترسله إلى ساحة الحرب، ولا يمكن أن يبني علاقة مع مصادر سرية تزوّدك بالمعلومات، ويصعب عليه أن يلعب دور محاور شرس أمام سياسي مراوغ. لكنه بالتأكيد سيلعب دوراً حاسماً في العمليات التقنية والآلية. سيسّهل من القدرة على العمل اليومي الآلي ذي الطبيعة المتكررة، ويسهل عملية الإنتاج والبحث والرصد، ويخفض التكلفة ويرفع الجودة.

لكن هذا لا يعني أن الصحافيين ملائكة، بل إنها مثل كل مهنة أخرى تتعرض للاستغلال، ويدخل فيها المنتفعون والمشعوذون والمؤدلجون والمندفعون والباحثون عن الثراء، وتنحرف عن مسارها المهني، وتسيطر عليها الأهواء والمشاعر القوية المنحازة بدل الرؤية الواضحة. وقد شهدنا في الإعلام الغربي والعربي نماذج على مثل هذا التخبط، عندما تسبق العاطفة العقل، وتستبدل العقيدة الفكرية المتصلبة المنطق، وتحلّ الشعبوية وهتاف الجماهير مكان المهنية والموضوعية.

من النماذج ما نراها الآن في الإعلام الأميركي الذي يعيش هذه الأيام صدمة ما بعد انتخاب الرئيس ترمب للمرة الثانية. ولا يمكن التقليل من براعة وحرفية هذا الإعلام عبر العقود، حيث يجمع بين المهنية والجاذبية، لكنه انحرف في السنوات الأخيرة عن مساره لدرجة أن تحوَّل مثار سخرية من إيلون ماسك الذي يروّج على أن حسابه في «إكس» هو الميديا الحقيقية. و«إكس» بالطبع ليس صحافة، فهو ساحة صاخبة مفتوحة لكل الآراء الرصينة والمضطربة، لكن كلامه يكتسب مصداقية عالية بسبب النهج الخاطئ الذي سلكته وسائل الإعلام في الأعوام الأخيرة، خصوصاً منذ أن وصل دونالد ترمب للسلطة للمرة الأولى. مدفوعة بالكراهية العميقة له، تنازلت هذه الصحافة عن مُثلها وقدرتها على التوازن، وهي تدفع الثمن الغالي الآن، حيث تشير الاستطلاعات إلى تراجع الثقة بها لدى المتابع الأميركي.

استخدمت وسائل الإعلام أساليب الشعوذة الصحافية التي تعتمد على المصادر المجهولة بشكل مبالغ فيه، وتخلط الحقائق بالأكاذيب، وتخرج القصص من سياقها. لقد بدا أنها مدفوعة برغبة في الانتقام أكثر من البحث عن الحقيقة. في مثل هذه الأجواء المحمومة تحوَّل الصحافيون ناشطين، وتسابقوا إلى إسقاط الرئيس ترمب وكل من يقترب منه. ولا يعني هذا أن ترمب لم يرتكب أخطاء وهفوات متكررة، إلا أنه يجب أن يعامَل صحافياً بعدالة ليس من أجله، لكن من أجل المحافظة على قيمة المهنة نفسها ومبادئها. وبسبب هذا الاندفاع رأينا كيف تبنَّت وسائل إعلام عريقة وصحافيون بارعون قضية التواطؤ بين ترمب والروس، التي تحوَّلت عناوين رئيسية في المحطات والصحف. وأُدِين المتهم قبل أن يقول القضاء كلمته التي انتهت بعد تحقيق روبرت مولر الذي كلف أكثر من 500 مليون دولار إلى أن الاتهامات لا تستند إلى حقائق، وأنها مجرد اتهامات كيدية. كما ظهرت قصة التقرير الذي كان خلفه كريستوفر سيل وهو جاسوس بريطاني، وتم اعتمادها على أنها وثيقة أصلية لا تقبل الشك، لكنها كانت مفبركة متقنة وحيلة سياسية من خصومه. حتى وسائل الإعلام التي اصطفت إلى جانب ترمب تحوَّلت منصةً دعائية له. وبسبب خوفها من خسارة النسبة العالية للمشاهدة التي يحققها مناصروه تبنَّت كل التفكير المؤامراتي الذي يردّدونه، من ضمنها مؤامرة اللقاح، وجائحة «كوفيد»، وتزوير الانتخابات. تحوَّل الصحافيون جوقةً من المريدين والمحازبين.

وليس ترمب وحده، لكن شخصيات كثيرة تلقت المعاملة ذاتها غير العادلة من الصحافة. إيلون ماسك نفسه بسبب مواقفه السياسية والثقافية المحافظة في السنوات الأخيرة تحوَّل هدفاً، وتعرَّض لمحاكمات أخلاقية وتضييق على منصته، واتُهم بتعاطي المخدرات بغرض تحطيم صورته. وهذا أحد أسباب غضبه من الإعلام وموقفه المعادي للمؤسسات الصحافية التي تعاملت معه بلؤم وقلة احترام. والآن مع عودة ترمب للرئاسة من جديد وبطريقة لا يمكن التشكيك فيها تواجه الصحافة أزمة مصداقية لأنها عملت جاهدة على الدفاع عن كامالا هاريس وحمايتها وإغراق خصمها في الوحل. وفي سياق هذه الحملات المكشوفة التي جعلت كاتباً صحافياً مرموقاً يكتب أنه انفجر بالبكاء بعد المناظرة الأولى بين بايدن وترمب؛ خشية أن يعود الرئيس السابق بعد الأداء الباهت لبايدن، وطالبته أن يتنحى ليترك الفرصة لنائبته لخوض سباق الرئاسة.

ومع عودة ترمب يثبت أن الاندفاع نحو الأهواء الآيديولوجية والانحيازات الشخصية يدمر العمل الصحافي ولا يترك له إلا القليل من المصداقية. وفي الإعلام العربي الوضع ليس أحسن حالاً بكل تأكيد. تستخدم أساليب الشعوذة الصحافية بطريقة سافرة، وتقدم معلومات خاطئة وكأننا لم نغادر عام 1967 الذي مثَّل ضربة قاصمة للإعلام العربي بسبب حالة الخداع والتخدير الكبير التي روَّج لها. في الإعلام الحقائق والمعلومات مقدسة، لكن يتم تجاهلها واختراع عالم موازٍ قائم على الأمنيات والعواطف. ومن الضروري فضح كل جرائم الإبادة والحروب الوحشية، لكن يجب ألا تعمل الصحافة على المتاجرة والتضحية بالمدنيين الأبرياء، وحجب أصواتهم بشكل كامل من أجل أحزاب سياسية وآيديولوجيات فكرية.

الالتزام بالقيم المهنية والمبادئ الصحافية (قدر الإمكان) هو العاصم من هذه الانهيارات التي نشعر بها تحت أقدامنا. فصل المعلومة عن الرأي والعاطفة عن الواقع هو المبدأ الذي لا يشيخ في الصحافة. اترك الحقائق تتحدث عن نفسها لأن صوتها أقوى. ضعها أمام الناس ودعهم يشكّلوا آراءهم وانطباعاتهم الشخصية. الانصياع للصيحات الشعبية الغاضبة والاندفاع قد يعجب الجماهير، لكنها مسألة وقت حتى تنقلب عليك وتلاحقك بالحجارة بتهمة الكذب عليها وخداعها وتضليلها وبيعها حفنة من الأوهام المنمقة والأحلام السعيدة.

arabstoday

GMT 04:54 2025 الثلاثاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

فوق سور الصين

GMT 04:53 2025 الثلاثاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

المُتنبّي ولامين يامال!

GMT 04:51 2025 الثلاثاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

هل ما زال ممكناً تلافي تجدّد الحرب؟

GMT 04:50 2025 الثلاثاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ديمقراطية الاستعراض والترفيه

GMT 04:48 2025 الثلاثاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

واشنطن والاستراتيجية المنتظرة لمكافحة الإرهاب

GMT 04:47 2025 الثلاثاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

مروان البرغوثي... في حالة السلم والحرب

GMT 04:45 2025 الثلاثاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ترمب وشي... قمة مستقبل الصراع

GMT 04:44 2025 الثلاثاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

القوى الثلاث بعد خروج إيران

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الشعوذة الصحافية الشعوذة الصحافية



النجمات العربيات يجسّدن القوة والأنوثة في أبهى صورها

أبوظبي - العرب اليوم

GMT 02:15 2025 الثلاثاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ميسي يراوغ مجددًا بشأن مشاركته مع الأرجنتين في كأس العالم 2026
 العرب اليوم - ميسي يراوغ مجددًا بشأن مشاركته مع الأرجنتين في كأس العالم 2026

GMT 11:42 2025 الثلاثاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

تصميمات رخامية تُعيد إحياء الحمّامات الرومانية في قلب بيروت
 العرب اليوم - تصميمات رخامية تُعيد إحياء الحمّامات الرومانية في قلب بيروت

GMT 07:26 2025 الإثنين ,27 تشرين الأول / أكتوبر

نادين الراسي ترقص بعفوية في دبي وتكشف سر الـ Six pack
 العرب اليوم - نادين الراسي ترقص بعفوية في دبي وتكشف سر الـ Six pack

GMT 12:36 2025 الثلاثاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

إيلون ماسك يطلق موسوعة غروكيبيديا المنافسة لويكيبيديا
 العرب اليوم - إيلون ماسك يطلق موسوعة غروكيبيديا المنافسة لويكيبيديا

GMT 07:07 2025 الإثنين ,27 تشرين الأول / أكتوبر

التحقيق مع فضل شاكر مستمر واسقاط بعض التهم

GMT 07:26 2025 الإثنين ,27 تشرين الأول / أكتوبر

نادين الراسي ترقص بعفوية في دبي وتكشف سر الـ Six pack

GMT 21:52 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

طقوس صباحية بسيطة لدعم صحة الكبد تشمل احتساء القهوة

GMT 15:33 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

الأرجنتين: تصويت مصيري وتدخل أميركي

GMT 15:49 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

سوريا الأستاذ وديع

GMT 20:28 2025 الجمعة ,24 تشرين الأول / أكتوبر

منة شلبي تعلن رسميًا زواجها بعد جدل الوثيقة المسربة

GMT 07:03 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

سريلانكا بين الجبال والبحار تجربة سياحية لا تُنسى

GMT 15:25 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

الدولة الفلسطينية وعبث الدولة الإسرائيلية

GMT 15:13 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

من مهابة القمة إلى مهاوي السفح

GMT 15:18 2025 الأحد ,26 تشرين الأول / أكتوبر

انتخابات فرعية تغيّر المشهد السياسي البريطاني
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab