انشغلت الولايات المتحدة الأميركية، الأسبوعين الماضيين، بحياة الرئيس دونالد ترمب، بعد أن اختفى لثلاثة أيام؛ إذ خيم الصمت على واشنطن: لا خطابات، لا مكالمات ليلية، لا نوبات غضب صباحية، ثم عاود الرجل الظهور مرة جديدة، لكن الاختفاء أو الاختباء ترك صدى واسعاً في أرجاء البلاد وخارجها.
عمّق الرئيس ترمب المخاوف من حوله، بعد تعليقه المثير على صفحات «تروث سوشيال» خاصته، لا سيما حين أشار إلى أن أحداً لن يستطيع أن يوقف ما هو قادم. على أن ما شغل الأميركيين بشكل أعمق تصريحات نائبه جي دي فانس، في اليوم الثاني لاختفائه، حين تحدث بكلمات تبدو غريبة إلى صحيفة «يو إس إيه توداي»، ذائعة الصيت.
حاول دي فانس التأكيد أول الأمر على أن الرئيس يتمتع بصحة ممتازة، وأن لديه طاقة هائلة للعمل، وهو آخر شخص يجري مكالمات هاتفية في الليل، وأول شخص يستيقظ ليباشر العمل في الصباح. لم تطمئن هذه البيانات الشعب الأميركي، خصوصاً في ظل مشاهد بادية على جسد ترمب، خصوصاً على كاحليه المنتفخين، بسبب «قصور وريدي مزمن»، تم الإعلان عنه رسمياً من جانب البيت الأبيض، في يوليو (تموز) الماضي، أو حركة قدميه الملتوية، التي تعكس شيئاً ما غير مريح.
على أن عبارة كلمات دي فانس، أشعلت الأجواء بجمر القلق؛ فقد اعتبر أنه «نعم، تحدث مآسٍ مروعة، لكنني واثق من أن رئيس الولايات المتحدة يتمتع بصحة جيدة، وسيكمل ما تبقى من ولايته، كما سيحقق إنجازات عظيمة للشعب الأميركي».
إلى هنا ربما كان المرء يتوقَّع أن تعبير «مآسٍ مروعة»، جاء من باب المغالاة أو المجاز، وإن كان من الصعب على كاتب «مرثية هليبيلي» أن يخطئ على هذا النحو.
ما عمَّق الخوف من معالم وملامح القادم من أيام الولايات المتحدة، والدور المنوط بجي دي فانس تحديداً، هو إصراره على القول: «إذا حدثت مأساة رهيبة، فلا أستطيع أن أفكر في تدريب أفضل مِن الذي تلقيته خلال الأيام المائتين الماضية».
هنا يبدو مسار الكلام مغايراً جداً، فالرجل يكاد ينطق برؤية ما عن توليه دور الرئاسة الأميركية، في حال غاب الرئيس ترمب، ويعتبر أنه بات جاهزاً لتولي دور القائد الأعلى.
كيف يمكن قراءة هذه العبارات الغامضة والمثيرة إلى حد مخيف؟
ربما يتوجب علينا قبل ذلك النظر قليلاً إلى الوراء، والتأمل ملياً وجلياً في الطريق الذي تم تعبيده للشاب صغير السن، المختار لمنصب نائب الرئيس، عبر روافع غير اعتيادية لعب فيها مركز «HERITAGE (التراث)» في واشنطن، العقل المحافظ الجديد للولايات المتحدة، دوراً لا يزال ضمن أطر السرية، عطفاً على أن الشاب قادم من خلفية دوغمائية تربط بينه وبين جماعة دينية ذات توجهات غير ليبرالية، تعرف بـ«أوبس داي».
دي فانس في واقع الأمر يُعدّ في نظر كثيرين من المراقبين الثقات للشأن الأميركي ذراعاً عملياتية يمينية، تسعى في طريق الاستيلاء الناعم والديمقراطي على الحكم في الداخل الأميركي، وبما لا يخالف القوانين والدستور.
الذين قُدِّر لهم متابعة خطاب دي فانس في الخامس من يوليو (تموز) الماضي، خلال تكريمه في معهد كليرمونت، بسان دييغو، ومنحه «جائزة رجل مرموق»، استمعوا إلى رؤية عن أميركا مغايرة، أميركا أمة الأرض والدم، تلك التي تنافي وتجافي رؤية إبراهام لنكولن عن العدالة والمساواة، أميركا انتقائية ذات توجهات استقطابية لنخب بعينها، أقرب ما تكون إلى فكرة «الداروينية الاجتماعية».
هل يمكننا القطع بأن دي فانس قام بالفعل في تلك الأمسية، وربما قبلها، بصياغة استراتيجيته السياسية الخاصة، وبعبارات تشبه إلى حد كبير تلك التي سطرها من قبل مفكرو اليمين المحافظ الجديد؛ حيث يعد بامتياز أحد تلامذتهم النجباء؟
جي دي فانس يدور كذلك في فلك النخبة التكنولوجية الأميركية الجديدة، التي يراها البعض في طريقها للانقضاض على أميركا الديمقراطية دفعة واحدة.
وبالعودة لتفسير كلمات دي فانس عن «المأساة المروعة»، فإن مؤيديه قالوا إنه تلميح بريء للواقع السياسي الأميركي. أما منتقدوه، فقطعوا بأنه يعلم ما يجري بسرعة وراء الستار، وقد تكون الضبابية الأخيرة في واشنطن مِن حول الرئيس، وراءها نوازل ونوازع تقودها الدولة الأميركية العميقة، غير الراضية عن الطريقة التي تقاد بها دفة السفينة الأميركية منذ يناير (كانون الثاني) الماضي.
أما عبر شبكة الإنترنت، فالكل اعتبر أن حديث «المأساة المروعة»، يعني أن دي فانس على بُعْد نبضة قلب من مقام الرئاسة الأميركية.