إيران تخصّب أزماتها

إيران تخصّب أزماتها

إيران تخصّب أزماتها

 العرب اليوم -

إيران تخصّب أزماتها

عبد الرحمن شلقم
بقلم - عبد الرحمن شلقم

الأوطان أجسام كبيرة من بشر وأرض وتاريخ ومعتقدات وآمال، تتفاعل في مسيرة الدنيا التي تضج بالتغير المستمر عنفاً وسلماً. لكل شعب عقل متعدد القدرات، لكن السؤال الذي يرهق الزمن، ولا يزول أبداً، هو ماذا يريد كل شعب؟ وكيف يصنع قدراته التي تحقق ما يصبو إليه؟ في كل حقبة تثار هزات تصنع التقدم، لكنها كثيراً ما تشد الشعوب إلى الخلف، تسيل الدماء في عجاج التذمر والغضب بسبب تشوهات غامضة في القيادات التي تضعها الأفعال والأقدار على رؤوس البشر. في القرن الماضي شهد العالم حدثاً كبيراً شدَّ إليه العالم. ثورة عارمة في إيران، البلاد التي حكمتها أسرة بهلوي، لها تاريخ عريق يمتد في زمن الشرق. برز شخص، حيث لم تألف العيون في كل الأرض رؤية شيخ طاعن في السن غريباً في كل شيء. آية الله العظمى روح الله الخميني، بعمامته السوداء وعباءته التي تترجرج حول جسده النحيف. تابعته ملايين المشاهدين عبر نقل تلفزيوني مباشر، وهو يتدلى من الطائرة التي حملته من فرنسا مباشرة إلى طهران بمساعدة مضيفين على سلم الطائرة. نهاية تراجيدية لنظام رحل، وبداية لحقبة جديدة، فيها من الدراما التي يلونها الغموض السريالي الذي يصنع «الفرجة» التي تغري بمتابعتها. تدافع الصحافيون إلى طهران، وكلهم يركض وراء معرفة شيء واحد، ماذا ستكون إيران الجديدة القادمة؟ لم يدر بعقل أحد، حتى خياله، أن كياناً غير مسبوق في بنيته وسلوكه وفكره سيُبنى بيدي هذا القادم من ثقب أسود بعيد، لم تره عين، وما خطر على خيال كاتب أو رسام. استعاد آية الله ما كان رميماً في قبور الغابرين، بنظراته الناعسة وحركة يده التي تعمم تحية التبريك على الحشود التي يلهبها حماس رؤية هيئة القادم من الثقب الأسود المتحرك، ألغى كل ما أبدعه الفكر الديني والفلسفي الإنساني عبر قرون طويلة، وقام بتصفية كل من شارك في الثورة ضد الشاه، ولكنه يهدف إلى تأسيس نظام سياسي جديد، تتعايش فيه الأفكار والمكونات الاجتماعية الإيرانية، وتكون فيه السلطة بمشاركة ديمقراطية، وتجد فيه المرأة مكاناً لها يضمنه الدستور. استحضر الخميني مصطلحاً قديماً في التراث الشيعي الاثني عشري، وهو «ولاية الفقيه» الذي قيل به منذ ما عرف عندهم بالغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر، المهدي المنتظر؛ حيث يعتبرها الفقهاء ولاية وحاكمية الفقيه الجامع لشروط الفتوى والمرجعية الدينية المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية في عصر غيبة الإمام الحجة، حيث ينوب الولي الفقيه عن الإمام الغائب في قيادة الأمة وإدارة شؤونها والقيام بمهام الحكومة الإسلامية وإقامة حكم الله على الأرض.
وضعت هذه القاعدة في دستور البلاد، وهكذا أصبحت البلاد محكومة مطلقاً بقيادة نائب عن إمام غائب ينتظره أتباعه منذ أكثر من 1000 عام ولم يحضر بعد. نظام لم تعرفه البشرية منذ أن اجتمع الناس في كيانات اجتماعية تنظمها أعراف وتقاليد وقوانين ودساتير.
قام النظام الجديد في إيران تحت دولة الجمهورية الإسلامية، تضمن دستورها الالتزام بنصرة المستضعفين في جميع أنحاء العالم. دخلت الدولة الوليدة منذ يومها الأول في صراعات داخل حدودها وخارجها، وسخرت إمكاناتها الاقتصادية الكبيرة في تمويل حركات عقدية ومسلحة في أنحاء كثيرة من العالم، وعملت على تجنيد الطائفة الشيعية في كل الأقطار القريبة والبعيدة في تكوينات سياسية ومسلحة تأتمر بأوامر طهران، وأنفقت جزءاً كبيراً من مداخيلها النفطية على ذلك. إيران التي تمتلك قدرات علمية وثروات طبيعية هائلة وموقعاً جغرافياً حساساً، سخرت كل قدراتها لتصنيع السلاح واتجهت إلى تطوير الصواريخ وتخصيب اليورانيوم ودعم حركات التمرد والعنف السياسي والديني في البلدان المجاورة لها. اهتزَّ العقل الاستراتيجي الدولي بسبب الطموح الإيراني المريب، خصوصاً في المجال النووي، وبادرت الدول الكبرى لكبح الاندفاع الإيراني الخطير. لقد قامت دول كثيرة بتصنيع سلاح ذري، ولم يعترض أحد بما في ذلك دولة إسلامية هي باكستان، كانت السياسات والآيديولوجيا الإيرانية هي محرك الحذر الدولي من امتلاكها لذلك السلاح الرهيب. قبلت إيران التفاوض مع الدول الدائمة العضوية بمجلس الأمن وألمانيا، ثم التوصل إلى اتفاق يضبط النشاط النووي الإيراني، وحققت إيران مزايا سياسية ومالية حيث جرى رفع العقوبات عنها، واستعادت 150 مليار دولار كانت مجمدة في أميركا وغيرها من البلدان. بعد تولي دونالد ترمب رئاسة الولايات المتحدة اعترض على الاتفاق، وانسحب منه وجدد العقوبات على إيران.
اليوم تدخل إيران في حلقة جديدة من الصراع، ليس مع أعدائها، بل مع نفسها. فلقد عادت إلى تخصيب اليورانيوم بدرجة أعلى مما تم في الاتفاق السداسي، رغم الجهود الأوروبية الحثيثة التي تهدف إلى ثنيها عن تلك الخطوة. ما قامت به إيران من رفع درجة تخصيب اليورانيوم ليس سوى عناد أعمى، يضر ولا ينفع. ماذا ستحقق من ذلك علمياً وسياسياً وعسكرياً؟ أوروبا ستضطر أمام التصعيد الإيراني إلى الاصطفاف إلى جانب الولايات المتحدة، وتفعل العقوبات على إيران، وستغادر الشركات الغربية التي لا يزال لها نشاط محدود في إيران البلاد، وترتفع وتيرة العقوبات على استيراد النفط الإيراني الذي فقد أغلب أسواقه. لم تكتفِ إيران بتخصيب اليورانيوم، بل اندفعت تخصب أزماتها بقوة، لا تلوي على شيء. في خضم الضائقة الاقتصادية التي تخنق البلاد والعباد، اتجهت مؤخراً إلى مضاعفة سعر المحروقات، ما فجَّر غضب الشارع الذي يعاني من البطالة والفقر في غياب أي أمل في حلول واقعية تخفف من المعاناة، في حين يرى عامة الشعب الإيراني أمواله تغدق على الحوثيين في اليمن و«حزب الله» في لبنان وفي سوريا والعراق. استعادة شيء من العقل تتطلب اتخاد قرارات جريئة بمراجعة الاتفاق السداسي حول نشاطها النووي، وكذلك الصرف الهائل على تمددها الخارجي الذي يستنزف من جسد الشعب الإيراني بلا هدف حقيقي.
إيران تعيش فورة غضب، سقط فيها غاضبون جياع وعاطلون عن العمل، ولن تقف طالما استمرت الضائقة الخانقة، ولا حل إلا بقرارات توقف تخصيب الأزمات التي لن تصنع سوى قنابل من جموع بائسة يائسة لن توقفها حركة من يد الإمام الخامنئي أمام مريديه أو على شاشات التلفزيون. الأوطان تحتاج إلى عقل حاضر يواجه إكراهات صعبة ويمتلك الشجاعة والحكمة لاجتراح الحلول الواقعية لها. إمام في غفوة خيال الغيب لا يستطيع نائبه في القرن الواحد والعشرين إلا أن يخصب جبال الأزمات.

 

arabstoday

GMT 02:32 2024 الجمعة ,12 إبريل / نيسان

صدّام حسين: رُبّ قومٍ ذهبوا إلى قوم!

GMT 00:43 2024 الأربعاء ,03 إبريل / نيسان

الخسارة في السفارة وفي النظرية

GMT 01:41 2024 الإثنين ,25 آذار/ مارس

«داعش» ليس أداة استخباراتية

GMT 01:44 2024 الجمعة ,22 آذار/ مارس

الدولة اجتماعية ولو بمقدار

GMT 01:23 2024 الجمعة ,22 آذار/ مارس

الاغترابُ: المفهومُ الفلسفي والواقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إيران تخصّب أزماتها إيران تخصّب أزماتها



GMT 23:31 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

منى واصف تكشف عن أمنيتها بعد الوفاة
 العرب اليوم - منى واصف تكشف عن أمنيتها بعد الوفاة

GMT 22:06 2024 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

3 عمليات حوثية ضد سفن ومدمرات أميركية وإسرائيلية

GMT 15:09 2024 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

النوم الجيد يطيل حياة الإنسان ويضيف سنوات لعمره

GMT 22:17 2024 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

تونس تنتشل 14 جثة لمهاجرين غير شرعيين قبالة جربة

GMT 15:32 2024 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

ملك الأردن يأمر بإجراء انتخابات مجلس النواب

GMT 18:03 2024 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

أحمد السقا أولي مفاجأت فيلم "عصابة المكس"

GMT 10:46 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

زلزال بقوة 5.3 ريختر يضرب شرق إندونيسيا

GMT 01:08 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

نانسي عجرم بإطلالات عصرية جذّابة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab