حكاياتي مع السيجارة

حكاياتي مع السيجارة

حكاياتي مع السيجارة

 العرب اليوم -

حكاياتي مع السيجارة

بقلم - جميل مطر

قضيت سنوات طفولتى وفجر مراهقتى فى بيت الأب فيه يدخن بحرص وحسب توقيتات لا تتبدل والأم تكره رائحة الدخان وتحرمها على المطبخ. الوالد يدخن فى مواعيد تكاد لا تتغير. سيجارة مع قهوة الصباح وأخرى بعد استراحة القيلولة، ولا تدخين بينهما. سنوات قضيتها أيضا فى صحبة «شلة» لا أحد فيها يدخن. إن حدث وشوهد واحد منها يدخن على ناصية من نواصى اللقاء تردد الخبر لدى الأمهات فى كل البيوت وانهالت على المدخن ويلات الأمهات كافة.

• • •

كنت فى السادسة عشرة أو حواليها عندما فتحت بالصدفة المحضة «مراية» الدولاب الكبير فى غرفة نوم أهلى بتكليف من والدتى. امتدت يدى فى جوف الدولاب الضخم بحثا عن شىء لا أذكره الآن لترتطم بعلبة ناعمة الملمس الخارجى، سحبتها فإذا بى أسحب «كروزة» حمراء اللون ثقيلة الوزن تجمع كما خمنت ثم تأكدت عشرة من علب سجاير ماركة دانهيل الإنجليزية الشهيرة. دفعنى إلى تمزيق غلافها الخارجى الناعم شهرتها «الاستعمارية» وشعبيتها بين ممثلات الأفلام الإنجليزية، وإن لم تكن فى شهرة سجاير لاكى سترايك، الماركة المتميزة فى أفلام الحرب الأمريكية. سحبت علبة من العلب العشرة وخرجت مع الشلة أتباهى وسط مظاهر الاحتجاج والاستنكار. عدت ليلتها إلى البيت بدونها.

• • •

تخرجت وقد احتلت السيجارة مكانة مرموقة فى مظهرى قبل أن يتمدد نفوذها ليحتل موقعا متميزا فى مكونات شخصيتى. أذكر بدون تفاخر أنها نجحت أيضا فى أن تصبح طرفًا فى حياتى العاطفية، تسجل فوزًا بعد فوز وتتلاعب بحرية فى رغبات القلب وشهوات الجسد. أعترف الآن أنها استمكنت حتى تمكنت. بدت فى مطلع علاقتنا ناعمة وضعيفة ورقيقة. لا يتحمل جسدها لحظة رطوبة أو موجة قيظ وجفاف. ارتاحت إلى حمايتى فتعلقت وإلى ضرورتها فى حياتى فازدادت تعلقا.

• • •

أظن أننى ارتحت إلى نعومة ملمسها ومظهرها فتعلقت وإلى صلابة إرادتها فازددت تعلقا. لم نحسب حساب يوم فراق. الاثنان لا يفترقان إلا عند النوم وليس كل النوم على كل حال. إذا دعانى داع للتعرف على سيجارة جديدة المحتوى والمظهر ثارت سجائرى وشنت حربا عادت بالضرر الجسيم على عضو أو آخر من أعضاء جسدى. أنسحب قليلا من ساحة القتال ولكنى عائد حتمًا. السيجارة تعرف وأنا أعرف.

• • •

كثيرًا ما دعانى الأستاذ هيكل، وبخاصة خلال رحلاتنا فى أوروبا وآسيا، إلى أن أجرب تدخين سيجار من سجائره الفاخرة. اعتذرت فى كل مرة وهو غير مصدق، كيف وأنا أعشق التدخين أرفض الارتقاء من تدخين سيجارة أمريكية الأصل إلى تدخين سيجار كوبى لا يقوى على ثمنه إلا أقل المدخنين. كانت حجتى أمامه، وأمام محفوظ الأنصارى الذى لم يتوقف عن دعوتى للانضمام لجماعة السيجار، أن سيجارتى لن تفارقنى. امتنع كبريائى عن عذرى الصحيح وهو أننى أنا الذى لن يفارق وسيجارتى أول من أدرك هذه الحقيقة.

• • •

كنت فى تونس عندما أصابتنى حمى تسببت فى تضخم هائل فى اللوزتين وإلى خشية حقيقية من جانب أفضل أطباء مستشفى التوفيق من أن تنسد مجارى التنفس والبلع واستقر أمرهم إلى حقنى بالكورتيزون فورا بعد تلقينى درسًا فى أخلاقيات التدخين. قالوا لزوجتى، بصوت الواثقين والمتحيزين للبشر على حساب ما عداهم، «لا عودة إلى التدخين. فما حدث له أو معه ليس أقل من إنذار أول ولعله الأخير. هو حى الآن لأنكما تسكنان قريبا من المستشفى وإلا كنت الآن تخرجين من المستشفى وتعودين إلى بيتكما بدونه».

• • •

قضيت بمنزلى من فترة النقاهة أربعة أيام، قضيتها جالسا فى غرفة الموسيقى وعلى أريكتى المفضلة وعيناى معلقتان بشاشة التلفيزيون  وأصابعى ملتصقة بعلبة سجائرى التى وجدتها فى مكانها تنتظر عودتى ولسانى ملتهب من سخونة عبارات الإدانة وصرخات العتاب الموجهة إلى سيجارة خرجت، لست أدرى كيف ومتى خرجت، من علبتها والتصقت ببعض أصابعى. 

لم تستقر ساكنة، أظن أنها كانت تتحرك متألمة تحاول التفلت من قبضة أصابعى عندما سمعت اتهامى الصريح لها بخيانة العهد. أذكر أننى قلت لها إننى لم أبخل عليها يومًا بحب أو غيرة أو حضن. عشت أيامى معها إن غابت أو غبت أعرب لها عن شوقى، خصصت لها أقرب موقع جغرافى من قلبى وهو الجيب فى جميع قمصانى الإفرنجية ويسميها التوانسة  بالسورية، نسبة إلى القمصان التى كان يرتديها المترجمون السوريون واللبنانيون فى الجيش الفرنسى المحتل، بينما ارتدى رجال تونس الملابس العربية العثمانية. خانت العهد لأنها تسببت عن علم وخبرة فى إصابتى بمرض استدعى نقلى إلى المستشفى.

توقف العتاب بعودتنا إلى علاقة أوثق انتهت بعد عشرين سنة بنقلى إلى مستشفى مصطفى محمود فى قلب إمبابة وأنا بين الحياة والموت. هذه المرة أصيب القلب إصابة مباشرة. هناك وفى وجود حشد من أفراد عائلة وأصدقاء وزملاء وزميلات عمل مبللة عيونهم بالدموع أفقت على نية قطيعة لا مفر منها.

• • •

أنعى لنفسى  طول الوقت وإلى يومنا هذا نهاية علاقة لعلها الأطول والأقرب إلى قلبى وعقلى بين غيرها من علاقات أقمتها مع أغراب أو أقرباء. لا أنكر أننى أحلم بما دار بيننا على انفراد أو فى حضور آخرين. أعيش وفيا لها رغم كل ما تسببت فيه. أحن إليها إن رأيتها بين أصابع غريب. أختار فى المطعم أو المقهى مكانا لمائدتى بين موائد المدخنين على هواء المكان يحمل لى زفرة دخان أطلقها أحد المدخنين.

• • •

لن أعود يا معشوقتى. لن أعود.

arabstoday

GMT 17:22 2025 الثلاثاء ,20 أيار / مايو

وهل كنا نعيش في المدينة الفاضلة؟!

GMT 15:26 2025 الثلاثاء ,20 أيار / مايو

ترامب في الجامع.. رسالة التسامح والسلام

GMT 15:23 2025 الثلاثاء ,20 أيار / مايو

مِن رَوَائِعِ أَبِي الطَّيِّب (50)

GMT 15:20 2025 الثلاثاء ,20 أيار / مايو

إنقاذ سوريا

GMT 10:33 2025 الثلاثاء ,20 أيار / مايو

آخر اختبار لأخلاق العالم

GMT 03:11 2025 الثلاثاء ,20 أيار / مايو

حياة عادية

GMT 03:09 2025 الثلاثاء ,20 أيار / مايو

ياسمين حسان ياسين

GMT 03:06 2025 الثلاثاء ,20 أيار / مايو

من أشعل حرب طرابلس؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حكاياتي مع السيجارة حكاياتي مع السيجارة



النجمات العرب يتألقن بإطلالات أنيقة توحّدت تحت راية الأسود الكلاسيكي

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 14:11 2025 الثلاثاء ,20 أيار / مايو

أحمد سعد يعلّق على نجاح حفله في أستراليا
 العرب اليوم - أحمد سعد يعلّق على نجاح حفله في أستراليا

GMT 02:41 2025 الثلاثاء ,20 أيار / مايو

هذه القصة المُحزنة

GMT 00:26 2025 الإثنين ,19 أيار / مايو

غوتيريش يطالب بوقف إطلاق نار دائم في غزة

GMT 00:46 2025 الإثنين ,19 أيار / مايو

توقعات الأبراج اليوم الإثنين 19مايو / أيار 2025
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab