رَأَيْتُ عَرَابَةَ الأَوْسِيَّ يَسْمُو

رَأَيْتُ عَرَابَةَ الأَوْسِيَّ يَسْمُو

رَأَيْتُ عَرَابَةَ الأَوْسِيَّ يَسْمُو

 العرب اليوم -

رَأَيْتُ عَرَابَةَ الأَوْسِيَّ يَسْمُو

بقلم : تركي الدخيل

عَلَى مَدَى 14 قرناً مَضَتْ، ردَّدَ عُشَّاقُ الشّعْرِ وَالأَدَبِ العَرَبِيّ أبياتاً قِيلَتْ فِي مَدْحِ الصَّحَابِيّ الأَنْصَارِي عُرَابَة بنِ أَوْسٍ الأَوْسِيّ، هِيَ قولُ الشَّاعِرِ:

رَأَيْتُ عَرَابَةَ الأَوْسِيَّ يَسْمُو إِلَى الخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ

إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ

إِذَا بَلَّغْتِنِي وَحَمَلْتِ رَحْلِي عَرَابَةَ فاشْرَقِي بِدَمِ الْوَتِينِ

يَقولُ: تَأمَّلْتُ فَوَجدْتُ (عَرَابَة الأَوْسِيّ)، وَهوَ المَمَدُوحُ، يَسمُو: فِعلٌ مُضَارَعٌ يَدُلُّ عَلَى الاسْتِمرَارِ، وَهوَ الارتِفَاعُ وَالارْتِقَاءُ وَالعُلُوُّ، واشتِقَاقُهُ مِنَ السَّمَاءِ، فَكَأنَّ الذِي يَسْمُو، يَرتَفِعُ حتَّى يَكادَ يَصِلُ السَّمَاءَ بِعُلُوِّهِ فِي السَّجَايَا الحَمِيدَةِ وَالأفْعَالِ المَجِيدَةِ. وَهُوَ بِهذَا الصُّعُودِ المُتَوَاصِلِ، فِي صُنُوفِ الخَيرِ، ليسَ لَهُ مَثِيلٌ، فِي هَذَا العُلُوّ، وَلِذَلِكَ فَإنَّ عَرَابَةَ بِهذَا المَسلِكِ، يُعْتَبَرُ: (مُنْقَطِعَ القَرِينِ)، والقَرِينُ الشَّبِيهُ وَالمَثِيلُ، الذِي عَادَةً مَا يَكُونُ قَرِيباً مِنْ صَاحِبِهِ وَصَدِيقِهِ. وَسُمِّيَ قَرِيناً اشْتِقَاقاً مِنْ قَرْنَيِ الحَيَوَانِ... كَقَرْنَيِ الوَعْلِ مَثلاً، وَذَلكَ لأنَّهُمَا قَرِيبَانِ مِنْ بَعْضِهِمَا، وَمُتَجَاوِرَانِ دَوماً.

وَفِي البَيتِ الثَّانِي يَتَحَدَّثُ عَنْ جَاهِزِيَّةِ عَرَابَةَ الدَّائِمَةِ لِفِعْلِ الخَيْرِ وَصِنَاعَةِ المَجْدِ، فَفِي حَالِ مَا رَايةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ نَهَضَ إليهَا عَرَابَةُ وَتَلقَّاهَا بِيُمْنَاهُ. وَالشَّاعِرُ يَقُولُ: (إذَا مَا)، أيْ فِي حَالةِ، وَ(رَايَة) من دونِ الألفِ واللَّام نَكرةٌ أكَّد بِهَا أنَّ اسْتِعْدادَهُ لِفِعْلِ الخَيرِ لَيسَ مُرتَبِطاً بِمَعْرِفَةٍ بِمنْ يَدعُو لَهُ بَلْ هيَ استجَابةٌ فَطريةٌ لِلَّدعوَةِ ذَاتِهَا قَناعةً بهَا، وَطِيباً بِالمُستَجِيبِ وَجودةً فيه. وَرَايةٌ رُفِعَتْ لِمَجدٍ: باعتِبارِ مَا يَتَحَقَّقُ لَاحِقاً لِمنْ يَفعلُ الخَيرَ مِنْ مَجْدِ الذّكْرِ الحَسنِ. وَقولُ الشَّاعِرِ (تَلَقَّاهَا) وَليسَ أخَذَهَا، دَليلٌ علَى حَفَاوَتِهِ بهِ، فَالتَّلقّي يعكسُ المَحبةَ وَالحِرصَ وَالحَفَاوةَ مِنَ المُتَلقِّي بمَا يَتلقَّى. وَقَولُهُ (بِاليَمِينِ) دَليلٌ عَلَى العَزِيمَةِ الكَامِلةِ وَالشَّامِلةِ وَالقَويَّةِ فِي هذَا التَّلقّي، وَلِذَلكَ كَانَ بِاليَمِينِ وَهِيَ اليَدُ التِي تُعبِّر فِي المِخيَالِ العَرَبِي عَنِ التَّكرِيمِ وَالتَّشْرِيفِ وَالرّفْعَةِ انْعكَاساً لِتَلقٍّ رَاقٍ حَريصٍ مُكتملٍ.

وَفِي البَيتِ الثَّالثِ يُخاطِبُ الشَّاعرُ نَاقتَهُ، وَخِطَابُهُ لِلنَّاقةِ الذِي ينقلُهُ لِجمهُورِ شِعرِهِ يعكسُ فيهِ عُمقَ عَلاقتِهِ مَعَ هَذهِ النَّاقَةِ. لَكنَّهُ معَ هذهِ العَلاقةِ يُعلنُ لِناقتِهِ أنَّهَا إذَا أوْصَلتْه إلَى مَرَابِعِ عَرابَةَ فَيُمكنُهَا أنْ تَموتَ، وَعَبَّرَ عَنِ المَوْتِ بِقَولِهِ: (فاشرقِي بدمِ الوَتِينِ)، وهوَ فِعلٌ مُمِيتٌ، يأمرُهَا بفعلِهِ، دلالةً علَى قَبولِهِ لِلفعلِ إذَا حَدَثَ، فَإنَّهُ إذَا بَلغَ عَرَابَةَ لنْ يحتاجَ مَعهُ إلَى أَحَدٍ وَلنْ يلجأَ بعدَه غيرَ مَلجأ، فَكرَمَ الأوْسِيّ يغمرُكَ فَلَا تَحتَاجُ مَعهُ إلَى غَيرِه!

والأبياتُ، للشَّاعرِ المُخَضْرَمِ الفَحْلِ، الشَّمَّاخِ بنِ ضِرَارٍ المَرِّيّ، وَقصَّتُهَا أنَّ عَرابَةَ قَدِمَ من سَفرٍ، فَجَمَعَهُ الطريقُ بالشَّمَّاخ، فَقالَ عَرَابةُ: ما الّذِي أقْدَمَك المَدينةَ؟ قَالَ: قَدِمْتُ لأَمتَارَ مِنهَا (أيْ أجمعُ لي ولأهلِي مُؤنةً وطَعاماً مِنَ الحَبّ وَالقُوتِ)، فَمَلأَ لَهُ عَرابةُ رَوَاحِلَهُ، بُرّاً وتَمراً، وَأتحفَهُ بِغيرِ ذلكَ، فَقالَ الشَّمَّاخُ الأبيَاتَ فِي مَدحِ عَرَابَةَ.

كَانَ عَرَابَةُ بنُ أَوسٍ الأَوْسِيّ الأنصَاريّ، منْ سَادَاتِ المَدِينَةِ الأجْوَادِ، أدْرَكَ النَّبِيَّ ﷺ صغيراً، وَتَصَدَّرَ لِلمُشَارَكَةِ فِي مَعْرَكَةِ أُحُد، فاسْتَبعدَهُ النَّبِيُّ لصِغَرِ سِنّهِ، وَهوَ صِحَابيٌّ جَليلٌ، وَفَدَ إلَى الشَّامِ فِي عَهدِ مُعَاويَةَ بنِ أبِي سُفيَانَ، خَليفَةِ المُسلِمِينَ، فَسَأَلَهُ مُعاويَةُ: بمَ سُدْتَ قومَكَ؟

فَقالَ: لَسْتُ بِسيّدِهمْ ولَكنّي رَجلٌ مِنْهُمْ.

(إنَّهَا عَادةُ الكِبَارِ، يَزدَادُونَ كِبَراً فِي مَكَانَتِهمْ، وَلَا يَكبرُ فِيهمْ مثل تَوَاضُعِهمْ).

عَزَمَ مُعَاويَةُ عَلَى عَرَابَةَ بالسُّؤَالِ، فأجَابَ الأوْسِيّ بقولِهِ:

أعْطَيْتُ في نائِبَتِهم، وحَلُمْتُ عن سَفِيهِهِمْ، وشَدَدْتُ على يَدَيْ حَلِيمِهِمْ؛ فَمَنْ فَعَلَ مِنهمْ مِثْلَ فِعْلي فَهوَ مِثْلِي، ومِنْ قَصُرَ عَنهُ فَأنَا أفْضَلُ مِنهُ، ومَنْ تَجَاوَزَهُ فَهوَ أفْضَلُ مِنّي.

arabstoday

GMT 15:45 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

دوائر دوائر

GMT 15:44 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

تصدوا للتضليل

GMT 15:43 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

أهواءُ إسرائيلَ وأهوالها

GMT 15:43 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

وحدات وانفصالات ومراجعات في المشرق!

GMT 15:42 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

من «غلاف غزة» إلى «غلاف الإقليم»

GMT 15:41 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

مطلب التدخل الدولي بوقف الحرب

GMT 15:41 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

العودة إلى نقطة الصفر!

GMT 15:40 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

العالم... وحقبة استعمارية للأراضي القطبية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رَأَيْتُ عَرَابَةَ الأَوْسِيَّ يَسْمُو رَأَيْتُ عَرَابَةَ الأَوْسِيَّ يَسْمُو



نانسي عجرم تكسر قواعد الموضة في "نانسي 11" بإطلالات جريئة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 06:39 2025 الخميس ,24 تموز / يوليو

مصرع 10 رجال إطفاء في احتواء حريق بتركيا
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab