قِرَاءَةٌ فِي بَيْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الشَّهِيرِ وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ

قِرَاءَةٌ فِي بَيْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الشَّهِيرِ: وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ

قِرَاءَةٌ فِي بَيْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الشَّهِيرِ: وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ

 العرب اليوم -

قِرَاءَةٌ فِي بَيْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الشَّهِيرِ وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ

بقلم : تركي الدخيل

قَالَ إِمَامُ الْعَرَبِيَّةِ، الْأَصْمَعِيُّ: «إِنَّ أَحْسَنَ مَا قِيلَ فِي الصَّبْرِ، قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:

وَتَجَلُّـدِي لِلشَّامِتِينَ أُرِيهِمُ أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا أَتَضَعْضَعُ»

وَهَذَا بَيْتٌ مِنْ عَيْنِيَّةِ أَبِي ذُؤَيْبٍ، الَّتِي يَرْثِي فِيهَا خَمْسَةً مِنْ أَبْنَائِهِ، قَتَلَهُمُ الطَّاعُونُ بِمِصْرَ، وَهِيَ مِنْ أَشْهَرِ مَرَاثِي الشِّعْرِ، وَفِي مَطْلَعِهَا يَقُولُ:

أَمِنَ الْمَنُونِ وَرَيْبِهَا تَتَوَجَّعُ؟ وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ

مَنْ تَنْزِلُ بِهِ مُصِيبَةٌ، لَا يَلْبَثُ أَنْ يَتَلَفَّتَ بَاحِثاً عَنْ تَسْلِيَةٍ فِيمَا حَوْلَهُ، فَإِذَا أَوَّلُ مُجَافَاةٍ يَجِدُهَا فِي قَسْوَةِ الدَّهْرِ وَصَرَامَتِهِ، فَيَتَجَاوَزُهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَرَجَاءُ السَّلْوَى لَا يَزَالُ عِنْدَهُ كَبِيراً...

يَلْتَفِتُ أَبُو ذُؤَيْبٍ إِلَى الْآدَمِيِّينَ، الَّذِينَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَاطَفُوا مَعَهُ، فَيَكْتَشِفُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا خَيْراً مِنَ الدَّهْرِ، الَّذِي لَا يُحِسُّ، وَلَا يُعْتِبُ، وَلَا يَلْتَمِسُ عُذْرًا لِمَنْ يَجْزَعُ...

حِينَئِذٍ... سَيُفَضِّلُ الدَّهْرَ عَلَيْهِمْ، فَالْدَّهْرُ يَفْرِضُ سُنَنَهُ، لَكِنَّهُ لَا يَشْمَتُ بِأَحَدٍ!

أَمَّا الْبَشَرُ، فَإِنَّهُمْ يَشْمَتُونَ، وَالشَّمَاتَةُ لُؤْمٌ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ.

وَلَا يَلِيقُ بِمِثْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ، إِلَّا التَّجَلُّدُ لِلشَّامِتِينَ... وَعَدَمُ التَّضَعْضُعِ لِلْحَوَادِثِ.

وَتَجَلُّـدِي لِلشَّامِتِينَ أُرِيهِمُ أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا أَتَضَعْضَعُ

يَقُولُ: إِنَّنِي أَتَصَبَّرُ وَأَتَوَخَّى الْقُوَّةَ كَيْ لَا أَنْكَسِرَ لِلْمُصِيبَةِ، فَتَشْمَتَ بِي الْأَعْدَاءُ.

وَمَعْنَى تَجَلَّدَ: تَكَلَّفَ الْجَلَدَ وَأَظْهَرَهُ. وَالْجَلَدُ: الشِّدَّةُ وَالْقُوَّةُ وَالصَّبْرُ وَالثَّبَاتُ. وَالشَّمَاتَةُ: هِيَ فَرَحُ الْعَدُوِّ بِبَلِيَّةٍ تَنْزِلُ بِمُعَادِيهِ.

وَالتَّضَعْضُعُ: كُلُّ ضَعْفٍ وَخَوَرٍ وَانْكِسَارٍ وَخُضُوعٍ، بِسَبَبِ مَرَضٍ أَوْ حُزْنٍ أَوْ مُصِيبَةٍ.

وَالْمَنُونُ: الدَّهْرُ، وَقِيلَ: الْمَوْتُ. وَرَيْبُ الْمَنُونِ: حَوَادِثُ الدَّهْرِ.

شَاعِرُنَا هُوَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ (ت27 هـ). اسْمُهُ: خُوَيْلِدُ بْنُ خَالِدٍ، أَحَدُ بَنِي تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ، شَاعِرٌ فَحْلٌ، مُخَضْرَمٌ شَهِدَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ، وَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ.

وَعَدَّ ابْنُ سَلَّامٍ الْجُمَحِيُّ، فِي «طَبَقَاتِ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ»، أَبَا ذُؤَيْبٍ ثَانِيَ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ فُحُولِ الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ: «وَكَانَ أَبُو ذُؤَيْبٍ شَاعِراً فَحْلاً لَا غَمِيزَةَ فِيهِ وَلَا وَهْنَ». وَالْغَمِيزَةُ: هِيَ الْمَثْلَبَةُ وَالْمَطْعَنُ. وَالْوَهْنُ: الضَّعْفُ وَالتَّعَبُ.

وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَبْرَعُ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ، بَيْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ:

وَالنَّفْسُ رَاغِبَةٌ إِذَا رَغَّبْتَهَا وَإِذَا تُرَدُّ إِلى قَلِيلٍ تَقْنَعُ

وَفِي مَعْنَى بيتِ القصيد:

يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الشَّاعِرِ بِالْبَيْتِ: إِنَّ تَجَلُّدِي وَصَبْرِي وَثَبَاتِي رَغْمَ مُصِيبَةِ فَقْدِ فِلْذَاتِ كَبِدِي، هُوَ لِلشَّامِتِينَ، مِنْ أَجْلِ أَنْ أُرِيَهُمْ أَنِّي لَا أَهْتَزُّ لِمَصَائِبِ الدُّنْيَا، وَفَجَائِعِ الْحَيَاةِ.

كَمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الشَّاعِرِ بِالْبَيْتِ: إِنَّ تَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ، لِكَيْ أُرِيَهُمْ ثَبَاتِي وَصَلَابَتِي، وَعَدَمَ تَضَعْضُعِي لِلْكَوَارِثِ.

وَفِي الْحَالَيْنِ، فَإِنَّ فِعْلَهُ قَدْرٌ كَبِيرٌ مِنَ الصَّبْرِ. وَكَأَنَّ أَبَا ذُؤَيْبٍ يُنَاغِمُ فِي تَجَلُّدِهِ أَصْوَاتَ شُعَرَاءَ عَرَبٍ أَثْبَتُوا مِثْلَهُ كَرَامَتَهُمْ وَصَمُودَهُمْ أَمَامَ نَوَائِبِ الدَّهْرِ.

فَهَا هُوَ الطِّرِمَّاحُ بْنُ حَكِيمٍ الطَّائِيُّ يَرْفُضُ الْخُضُوعَ لِلِّئَامِ أَوِ الْمَصَائِبِ، مُظْهِراً قُوَّةَ نَفْسِهِ، فَقَالَ:

فَإِنْ أَشْمَطْ فَلَمْ أَشْمَطْ لَئِيمًا وَلَا مُتَخَشِّعاً لِلنَّائِبَاتِ

وَمَارَسْتُ الْأُمُورَ وَمَارَسَتْنِي فَلَمْ أَجْزَعْ وَلَمْ تَضْعُفْ قَنَاتِي

يَقُولُ: إِنَّنِي، إِنْ شِبْتُ، فَلَمْ يَكُنْ شَيْبِي ذُلًّا لِلَّئِيمٍ أَوْ خَوَراً أَمَامَ الْحَوَادِثِ، بَلْ قَابَلْتُ الْأُمُورَ بِصَبْرٍ وَثَبَاتٍ، فَلَا جَزِعْتُ وَلَا انْكَسَرَ رُمْحِي.

وَكَذَلِكَ الْجَمَّالُ بْنُ الْمُعَلَّى الْعَبْدِيُّ يَتَوَخَّى الصَّبْرَ خُلُقاً لَازِماً لِلْكَرِيمِ، مُؤَكِّداً عِزَّتَهُ أَمَامَ صُرُوفِ الدَّهْرِ، إذْ يَقُولُ:

لَا النَّائِبَاتُ لِهَذَا الدَّهْرِ تَقْطَعُنِي وَالصَّبْرُ مِنِّي عَلَى مَا نَابَنِي خُلُقُ

إِنَّ الْكَرِيمَ صَبُورٌ كَيْفَمَا انْصَرَفَتْ بِهِ الصُّرُوفُ إِذَا مَا أَفْلَقَ الْفَرَقُ

يَقُولُ: إِنَّنِي لَا تُكْسِرُنِي حَوَادِثُ الدَّهْرِ، فَالصَّبْرُ سَجِيَّتِي، وَالْكَرِيمُ يَتَحَلَّى بِالصَّبْرِ مَهْمَا تَقَلَّبَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ، حَتَّى فِي أَشَدِّ الْخَوْفِ وَالْفَزَعِ.

فَكُلُّ هَؤُلَاءِ، أَبُو ذُؤَيْبٍ وَالطِّرِمَّاحُ وَالْجَمَّالُ، يَتَّحِدُونَ فِي رَفْضِ الْخُضُوعِ لِلْمَصَائِبِ، مُظْهِرِينَ شَمَاخَةَ النَّفْسِ وَعِزَّةَ الرُّوحِ، حَتَّى لَا يَجِدَ الشَّامِتُونَ سَبِيلاً لِلْفَرَحِ بِهَزِيمَتِهِمْ.

arabstoday

GMT 16:36 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

ملكة القنوات

GMT 16:36 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

السعودية وباكستان و«ضربة معلم»

GMT 16:35 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

نقش «سلوان» وعِراك التاريخ وشِراكه

GMT 16:33 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

السعودية وباكستان... تحالف جاء في وقته

GMT 16:31 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

أين تريد أن تكونَ في العام المقبل؟

GMT 16:30 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

افتح يا سمسم

GMT 16:29 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

مأزق الليبرالية البريطانية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قِرَاءَةٌ فِي بَيْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الشَّهِيرِ وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ قِرَاءَةٌ فِي بَيْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الشَّهِيرِ وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ



البدلة النسائية أناقة انتقالية بتوقيع النجمات

بيروت ـ العرب اليوم

GMT 11:05 2025 الجمعة ,19 أيلول / سبتمبر

شيرين عبد الوهاب أمام القضاء بتهمة السبّ والقذف

GMT 03:18 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 06 سبتمبر/ أيلول 2025
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab