هَذَا زَمَانُكَ إِنِّي قَد مَضَى زَمَنِي

هَذَا زَمَانُكَ إِنِّي قَد مَضَى زَمَنِي

هَذَا زَمَانُكَ إِنِّي قَد مَضَى زَمَنِي

 العرب اليوم -

هَذَا زَمَانُكَ إِنِّي قَد مَضَى زَمَنِي

بقلم : تركي الدخيل

عجيبٌ أمرُ جَرِيرِ بنِ عَطِيَّةَ، مع عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزِيزِ، الخَلِيفَةِ الأُمَوِيّ، فَقَدْ كَانَ جَرِيرٌ ضِمْنَ وَفْدِ الشُّعَرَاءِ، الّذِينَ وَفَدُوا إلَى عُمرَ لمَّا اسْتُخْلِفَ، فَأقَامُوا بِبَابِهِ أيَّاماً لَا يُؤذَنُ لَهُمْ، وَفِيمَا هُمْ عَلَى هَذِهِ الحَالِ، وَقَدْ هَمُّوا بِالانْصِرَافِ، مَرَّ بِهمْ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ - وَكَانَ فَقِيهاً عَالِماً فَاضِلاً، مِنْ جِلَّةِ التَّابِعِينَ، فَلَمَّا رَآهُ جَرِيرٌ دَاخِلاً عَلَى عُمَرَ أَنْشَأَ يَقُولُ:

يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُرْخِي عِمَامَتَهُ هَذَا زَمَانُكَ فَاسْتَأْذِنْ لَنَا عُمَرَا

قَالَ: فَدَخَلَ وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْئاً.

ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ، التَّابِعِيُّ المُحَدِّثُ، أَمِيرُ البَصْرَةِ لِعُمَرَ بْنِ عبدِ العَزِيزِ، فَقَالَ لَهُ جَرِيرٌ:

يَا أَيُّهَا الرَّجُـلُ الْمُرْخِي مَطِيَّتَـهُ هَـذَا زَمَـانُـكَ إِنِّـي قَدْ مَضَـى زَمَـنـِي

أَبْلِغْ خَلِيفَـتَنَا إِنْ كُـنْـتَ لَاقِـيـهِ أَنِّي لَدَى الْبَابِ كَالْمَصْفُودِ فِي قَرَنِ

لَا تَنْسَ حَاجَتَنَا لُقِّيتَ مَغْفِرَةً قَدْ طَالَ مُكْثِي عَنْ أَهْلِي وَعَنْ وَطَنِيفَدَخَلَ عَدِيٌّ عَلَى عُمَرَ...

فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الشُّعَرَاءُ بِبَابِكَ، وَسِهَامُهُمْ مَسْمُومَةٌ، وَأَقْوَالُهُمْ نَافِذَةٌ. قَالَ: وَيَحَكَ يَا عَدِيُّ، مَا لِي وَلِلشُّعَرَاءِ؟!

قَالَ: أَعَزَّ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدِ امْتُدِحَ وَأَعْطَى، وَلَكَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ.

قَالَ: كَيْفَ؟ قَالَ: امْتَدَحَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ، فَأَعْطَاهُ حُلَّةً قَطَعَ بِهَا لِسَانَهُ. فسألَ عُمرُ: مَنْ بِالْبَابِ مِنْهُمْ؟ فَعُدُّوْا لَهُ وَاحِداً وَاحِداً، فَيَسْتَحضِر لِكُلٍّ مِنْهُمْ بَيْتاً مِنَ الشِّعْرِ، عِنْدَهُ عَلَيْهِ مُلَاحَظَةٌ شَرْعِيَّةٌ، تَجْعَلُهُ يَمْنَع دُخُوْلَهُ عَلَيْهِ، مَا عَدَا جَرِيْرَ بْنَ عطِيَّة، إِذْ أَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ وَمَدَحَهُ، وَكَتَبَ مَدَائحَ فِيْهِ، كُلُّهَا يَظْهَرُ فِيهَا صِدْقُ المَدِيْحِ بَادِياً.

وَفِي أَحَدِهَا، بَيْتُ نُصِيحَةٍ مَحْضَةٍ، رُبَّمَا جَرَّأَ جَرِير عَليهِ أَنَّ المَمدُوحَ هُوَ عُمَرُ بْنِ عَبدِ العَزِيزِ، لَا غيرهُ، وَهوَ قَولُهُ:

تَـعَـوَّدْ صَـالِحَ الأَخْـلَاقِ إِنِّـي رَأَيْـتُ المَـرْءَ يَلْـزَمُ مَـا اسْـتَـعَـادَا

(تَعَوَّدْ): اعتَدْ، وألزِمْ نفسكَ بِالعَادَةِ، لتَكُونَ طَبعْاً لَكَ وخُلُقاً.

(يَلْزَمُ): يلتَزِمُ اتِّبَاعَه الشَّيء، واجتِنَابَ ضِدِّه.

(اسْتَعَادَا): مَا عَوَّدَ نَفْسَهُ، واعْتَادَ عَلَيْهِ مَنْ الطِّبَاعِ.

وأَورَدَ عَجُزَ البَيتِ، أبُو العَبَّاس المُبَرِّد، في رِسَالَتِه «أعجازُ أبياتٍ تغنِي فِي التَّمثِيلِ عَنْ صُدُورِهَا». فيمَا قَالَ السيوطِي، عَنْ بَيتِ القَصيدِ إنَّ «فيه حِكمة بليغة، وفي معنَاه قول إبراهيمَ النَّخعِي: قَلَّ مَا عَوَّدَ الإِنسَانُ الشَّيطَانَ مِنْ نَفسِهِ عَادَةً إِلَّا استعادَهَا مِنْهُ. واستَعَادَ هُنَا: بِمَعنَى تَعَوَّدَ».

والعَادَةُ: هِيَ الفِعلُ الدَّائِمِ المُتَكَّرِّرِ، يُعَادُ إِليهِ.

سُمِّيَتْ عَادَةً لِمُعَاوَدَةِ فِعْلِهَا، بِرُجُوعِ فَاعِلها إِليهَا كُلَّ مَرَّةٍ، ومُدَاوَمَتهِ إِتْيَانـَهَا.

«قَالَ جَمَاعَةٌ: العَادَةُ تَكرِيرُ الشَيْءِ دَائِماً أَو غَالِباً عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ بِلَا علاقَةٍ عَقْلِيَّةٍ. وَقيلَ: مَا يستَقِرُّ فِي النُّفوسِ، من الأُمور المُتَكرِّرَةِ، المَعْقُولةِ عِنْد الطِّبَاع السَّلِيمة. وَفِي الحَدِيث: «تَعَوَّدُوا الخَيْرَ فإِنَّ الخَيْرَ عَادَةٌ، وَالشَّرَّ لَجَاجَةٌ»، أَي دُرْبَةٌ، وَهُوَ أَن يُعوِّدَ نفْسَه عَلَيْهِ، حَتَّى يَصِيرَ سَجِيَّةً لَهُ. وَعَوَّدَهُ إِيَّاهُ جَعَلَهُ (يَعْتَادُهُ)»، كما في «تاج العروس».

وفي الباب، يقولُ جَدُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لأُمِّهِ، وَهبُ بنُ عَبْدِ مَنَافِ بن زُهْرَةَ:

وَذَرِ الغُــوَاةَ الجَـاهِلِيْـنَ وَجَهْلَهُــمْ وَإلَــى الَّــذِيْـنَ يُذَكِّـــرُونَـكَ فَـاعْـمَـدِ

وَلِكُـــلِّ شَـــيْءٍ يُسْتَفَـــادُ ضَـــرَاوَةً وَالصَّــــالِحَـات مِــنَ الأُمُــوْرِ تُعَــوَّدوَمَا أَجْمَلَ قَوْلَ الشَّاعرِ القروي:

نَـصَـحْـتُـكَ لَا تَـأْلَـفْ سِوَى العَادَةَ الَّتِي يَــسُــرُّكَ مِــنْـهَــا مَـنْـشَــأٌ وَمَــصِـيْــرُ

فَـلَمْ أَرَ كَـالـعَــادَاتِ شَــيْــئاً بِــنَـــاؤُهُ يَــسِــيْــرٌ وَأَمَّـــا هَـــدْمُـــهُ فَــعَـسِـيْــرُ

ولأَنَّ العَادةَ مُتَجَذّرَةٌ، قَالَ عَنْهَا أبُو الفَتحِ البُستِيّ:

إِذَا فَطَمْت امْرَأً عَنْ عَـادَةٍ قَـدُمَـتْ فَـاجْعَلْ لَهُ يَا عَقِـيْدَ الفَضْلِ تَـدْرِيْـجَا

وَلَا تُــعَــنِّـفْ إِذَا قَــوَّمْــتَ ذَا عِـوَجٍ فَــرُبَّـمَـا أَعْـقَـبَ التَّـقْـوِيْـمُ تَـعْـوِيْـجَاأمَّا عبدُ اللهِ بن المُقَفَّع، فَيقولُ:

«اعلَم أنَّكَ لا تُصِيبُ الغَلَبَةَ إلَّا بالاجتهادِ والفَضلِ، وَأَنَّ قِلَّةَ الإِعدَادِ لمُدَافَعَةِ الطَّبَائِعِ المُتَطَلِّعَةِ هو الاستسلَامُ لَهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إلَّا وَفِيْهِ مِنْ كُلِّ طَبِيعَةِ سُوءٍ غَرِيزَة، وإِنَّمَا التَّفَاضلُ بَينَ النَّاسِ فِي مُغَالَبَةِ طَبَائِعِ السُوءِ».

arabstoday

GMT 06:18 2025 السبت ,16 آب / أغسطس

الاثنين أو الأربعاء

GMT 06:10 2025 السبت ,16 آب / أغسطس

«إسرائيل الكبرى»: الحلم القديم الجديد

GMT 06:08 2025 السبت ,16 آب / أغسطس

2025 سنة دونالد ترمب!

GMT 06:04 2025 السبت ,16 آب / أغسطس

هل يقدر «حزب الله» على الحرب الأهلية؟

GMT 06:02 2025 السبت ,16 آب / أغسطس

أحلام ستندم إسرائيل عليها

GMT 05:56 2025 السبت ,16 آب / أغسطس

بـ «السوسيولوجيا» تحكم الشعوب

GMT 05:54 2025 السبت ,16 آب / أغسطس

لبنان وحديث الضغوط الكاذب

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هَذَا زَمَانُكَ إِنِّي قَد مَضَى زَمَنِي هَذَا زَمَانُكَ إِنِّي قَد مَضَى زَمَنِي



الأميرة رجوة تتألق بإطلالة أنيقة بالأبيض تجمع بين البساطة والرقي

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 06:04 2025 السبت ,16 آب / أغسطس

هل يقدر «حزب الله» على الحرب الأهلية؟

GMT 15:49 2025 الجمعة ,15 آب / أغسطس

لاريجاني باللبناني

GMT 15:48 2025 الجمعة ,15 آب / أغسطس

السياسي والمناضل وثقافة الدولة

GMT 15:47 2025 الجمعة ,15 آب / أغسطس

أين اختفت جماهير إيران العربية؟
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab